وفي هذا الكلام التفات وتلوين ، أمّا الالتفات : فإنه خروج من ضمير الغيبة في قوله : «فإن أرادوا» إلى الخطاب في قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ) ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات ، وأمّا التلوين في الضمائر ، فإنّ الأول ضمير تثنية ، وهذا ضمير جمع ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضا ؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولود له ، ولكنه غلّب المذكّر ، وهو المولود له ، وإن كان مفردا لفظا ، و (فَلا جُناحَ) جواب الشرط.
قوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) «إذا» شرط حذف جوابه ؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، قال أبو البقاء (١) : وذلك المعنى هو العامل في «إذا» وهو متعلّق بما تعلّق به «عليكم» ، وهذا خطأ في الظاهر ؛ لأنه جعل العامل فيها أولا ذلك المعنى المدلول عليه بالشّرط الأوّل وجوابه ، فقوله ثانيا «وهو متعلّق بما تعلّق به عليكم» تناقض ، اللهم إلا أن يقال : قد يكون سقطت من الكاتب ألف ، وكان الأصل «أو هو متعلّق» فيصحّ ، إلّا أنه إذا كان كذلك ، تمحّضت «إذا» للظرفية ، ولم تكن للشرط ، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطية في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه.
وليس التّسليم شرطا للجواز والصحّة ، وإنّما هو ندب إلى الأولى ، والمقصود منه أن يسلّم الأجرة إلى المرضعة يدا بيد ، حتى تطيب نفسها ، ويصير ذلك سببا لصلاح حال الطّفل ، والاحتياط في مصالحه.
وقرأ الجمهور : «آتيتم» بالمدّ هنا وفي الرّوم : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً) [الروم : ٣٩] وقصرهما ابن كثير (٢). وروى شيبان (٣) عن عاصم «أوتيتم» مبنيّا للمفعول ، أي : ما أقدركم الله عليه ، فأمّا قراءة الجمهور ، فواضحة ؛ لأنّ «آتى» بمعنى «أعطى» ، فهي تتعدّى لاثنين ، أحدهما ضمير يعود على «ما» الموصولة ، والآخر ضمير يعود على المراضع ، والتقدير : ما آتيتموهنّ إيّاه ، ف «هنّ» هو المفعول الأوّل ؛ لأنه الفاعل في المعنى ، والعائد هو الثاني ؛ لأنه هو المفعول في المعنى ، والكلام على حذف هذا الضمير ، وهو منفصل قد تقدّم ما عليه من الإشكال ، والجواب عند قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣].
وأمّا قراءة القصر ، فمعناها جئتم وفعلتم يقال : أتيت جميلا ، إذا فعلته ؛ قال زهير : [الطويل]
١١٢٩ ـ وما كان من خير أتوه فإنّما |
|
توارثه آباء آبائهم قبل (٤) |
__________________
(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٩٨.
(٢) ينظر : السبعة ١٨٣ ، والحجة ٢ / ٣٣٥ ، والعنوان ٧٤ ، وحجة القراءات ١٣٧ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٠٣ ، وشرح شعلة ٢٩١ ، وإتحاف ١ / ٤٤٠.
(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٢٩ ، والدر المصون ١ / ٥٧٥.
(٤) ينظر ديوانه ١١٥ ، القرطبي ٣ / ١٧٣ ، الدر المصون ١ / ٥٧٥.