قال ابن الخطيب (١) : وهذا يستقيم على قول الفرّاء ، وضعيف على قول الزّجّاج ؛ لأنّه قد تقدّم ذكر ذلك ، فإنّه تعالى قال : (وَكُفْرٌ بِهِ أَكْبَرُ) فحمل الفتنة على الكفر يكون تكرارا.
والقول الثاني : أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشّبهات في قلوبهم ، وتارة بالتّعذيب كفعلهم ببلال ، وعمّار ، وصهيب.
قال محمّد بن إسحاق (٢) : لأن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال : فتنت الذّهب بالنّار : إذا أدخلته فيها لتزيل غشّه قال تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] ، أي: امتحان ؛ لأنّه إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله ، تفكّر في ولده ؛ فصار ذلك مانعا عن الإنفاق وقال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [العنكبوت : ١ ـ ٢] ، أي : لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [طه : ٤٠] وقال : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] وقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] والمراد أنهم آذوهم ، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [النساء : ١٠١] ، وقال : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ) [الصافات : ١٦٢] وقال : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) [آل عمران : ٧] أي : ابتغاء المحبّة في الدّين. وقال : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) [المائدة : ٤٩] وقال : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) [يونس : ٨٥] والمعنى : أن يفتنوا بها عن دينهم ، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر ؛ وقال : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم : ٥ ـ ٦] قيل : المفتون المجنون ؛ لأنّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنة وعدول عن سبيل العقلاء ، وإذا ثبت أنّ الفتنة هي المحنة ، فالفتنة أكبر من القتل ؛ لأنّ الفتنة عن الدّين تفضي إلى القتل الكبير في الدّنيا وإلى استحقاق العذاب الدّائم في الآخرة ، فصحّ أنّ الفتنة أكبر من القتل فضلا عن ذلك القتل الّذي وقع السّؤال عنه ، وهو قتل ابن الحضرميّ.
روي أنّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكّة : إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشّهر الحرام ؛ فعيروهم بالكفر ، وإخراج رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقتال من مكّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام (٣).
وصرح هنا بالمفضول في قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف.
قوله : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) هذا فعل لا مصدر له ، قال الواحديّ : ما زال يفصل ولا يقال منه : فاعل ، ولا مفعول ، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عسى» ليس له مصدر ،
__________________
(١) ينظر : المصدر السابق.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣٠.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٣١