فالجواب : أنّ فيه زيادة على الأوّل بقوله : «درجات» إذ التفصيل أعمّ درجة ودرجات ، فلا تكرار في شيء من ذلك.
قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ). فيه سؤالان (١) :
السّؤال الأوّل : قال في أوّل الآية (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [ثمّ عدل عن هذا النّوع من الكلام إلى المغايبة فقال : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ])(٢) ، ثم عدل من المغايبة إلى النّوع الأوّل فقال : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) فما الفائدة في العدول عن المخاطبة إلى المغايبة (٣) ، ثم عوده إلى المخاطبة مرّة أخرى.
والجواب : أنّ قوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أهيب وأكثر وقعا من أن يقال : منهم من كلمنا ، ولذلك قال : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) فلهذا اختار لفظ الغيبة.
وأمّا قوله (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) فإنّما اختار لفظ المخاطبة ؛ لأن الضّمير في قوله (وَآتَيْنا) ضمير التّعظيم ، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلّ على عظمة الإيتاء.
السّؤال الثاني : لم خصّ موسى ، وعيسى ـ عليهما الصّلاة والسّلام ـ بذكر معجزاتهما؟
والجواب : سبب التّخصيص : أنّ معجزاتهما أبهر ، وأقوى من معجزات غيرهما ، وأيضا ، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزّمان ، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين ، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطّعن في أمتهما ، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما ، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما ، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما (٤).
السّؤال الثالث : تخصيص عيسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بإيتاء البيّنات يوهم أنه مخصوص بالبيّنات دون غيره ، وليس الأمر كذلك ، فإن موسى صلىاللهعليهوسلم أوتي أقوى منها ، أو مساو.
والجواب : أنّ المقصود من هذا الكلام : التّنبيه على قبح أفعال اليهود ، حيث شاهدوا هذه البيّنات الواضحة الباهرة ، وأعرضوا عنها.
السّوال الرابع : «البيّنات» جمع قلّة ، وذلك لا يليق بهذا المقام!
والجواب : لا نسلّم أنه جمع قلة ؛ لأنّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلّة إذا لم يعرّف بالألف واللام ، فأما إذا عرف بهما ؛ فإنه يصير للاستغراق ، ولا يدلّ على القلّة.
قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) «القدس» تثقله أهل الحجاز ، وتخففه تميم.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ١٧١.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : المعاينة.
(٤) في ب : طلعتهما.