قلنا : لو كان كذلك ، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصّبيّ لا يتعجّب من شكّه في مثل ذلك ، وضعّفوا هذه الحجة ؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشّكّ في قدرة الله تعالى ، بل يحتمل أن يكون بسبب اطّراد العادات في أنّ مثل ذلك الموضع الخراب قلّما يصيّره الله معمورا ، كما أنّ الواحد إذا رأى جبلا ، فيقول : متى يقلب الله هذا ذهبا ، أو ياقوتا؟ لا أن مراده الشّكّ في قدرة الله ، بل إنّ ذلك لا يقع في مطرد العادات ، فكذا هاهنا.
الحجة الثانية : قوله تعالى في حقه : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) وهذا يدلّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين ، وضعّف ذلك بأن تبيّن الإحياء على سبيل المشاهدة ، ما كان حاصلا له قبل ذلك ، وأمّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسلم أنه لم يكن حاصلا له.
الحجة الثالثة : قوله : (أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا يدلّ على أنّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت ، وهذا أيضا ضعيف ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد ، وطمأنينة ، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت ، وهذا لا يدلّ على أنّ أصل العلم ما كان موجودا قبل ذلك.
الحجة الرابعة : انتظامه مع النمروذ في سلك واحد ، وهذا ـ أيضا ـ ضعيف ؛ لأنه وإن كان قبله قصّة النمروذ ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فوجب أن يكون نبيا من جنس إبراهيم.
واحتج من قال إنه كان مؤمنا بوجوه :
منها قوله تعالى (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) وهذا يدلّ على أنّه كان عالما بعد موتها بالله تعالى وبأنّه يصحّ منه الإحياء في الجملة ، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء ، إنما يصحّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة ، فأما من يعتقد أنّ القدرة على الإحياء ممتنعة لم يبق لهذا التخصيص فائدة.
ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله (كَمْ لَبِثْتَ) وبقوله (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) ، وبقوله : «فانظر إلى طعامك وشرابك وانظر إلى حمارك» ، وبقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) ، وبقوله (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر ، قال تعالى : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ، فجعله آية للناس ، دليل على مزيد التشريف.
ومنها ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير ، ومنهم العزير وكان من علمائهم ، فجاء بهم إلى «بابل» فدخل عزير يوما تلك القرية ونزل تحت ظلّ شجرة ، وهو على حمار ، فربط حماره ، وطاف في القرية فلم ير فيها أحدا ، فعجب من ذلك ، وقال (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) لا على سبيل الشّكّ في القدرة ، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة ، وكانت الأشجار مثمرة ، فتناول من الفاكهة التين والعنب ، وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام