وإنما جمع الضّمير حملا على المعنى ، لأنّ المراد بالذي الجنس ، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرّة في قوله : «ماله» و «لا يؤمن» ، «فمثله» وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) ثم قال : (بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ) [البقرة : ١٧] ، وقد تقدّم.
وزعم ابن عطيّة أنّ مهيع كلام العرب الحمل على اللّفظ أولا ، ثم المعنى ثانيا ، وأنّ العكس قبيح ، وتقدّم الكلام معه في ذلك. وقيل : الضّمير في «يقدرون» عائد على المخاطبين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، وفيه بعد.
وقيل : يعود على ما يفهم من السّياق ، أي : لا يقدر المانّون ، ولا المؤذون على شيء من نفع صدقاتهم. وسمّى الصّدقة كسبا.
قال أبو البقاء (١) : «ولا يجوز أن يكون «لا يقدرون» حالا من «الّذي» ؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله : «فمثله» وما بعده». ولا يلزم ذلك ؛ لأنّ هذا الفصل فيه تأكيد ، وهو كالاعتراض».
فصل
قال القاضي : إنه تبارك وتعالى أكّد النّهي عن إبطال الصّدقة بالمنّ ، والأذى ، وأزال كلّ شبهة للمرجئة ، وبيّن أنّ المنّ والأذى يبطلان الصّدقة ، ومعلوم أنّ الصّدقة قد وقعت ، فلا يصحّ أن تبطل ، فالمراد إبطال أجرها ، لأنّ الأجر لم يحصل بعد ، وهو مستقبل ، فيصحّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى.
واعلم أنّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصّدقة بالمنّ والأذى مثلين ، فمثله أوّلا : بمن ينفق ماله رئاء النّاس ، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله ، واليوم الآخر ؛ لأنّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر ، أظهر من بطلان أجر صدقة من يتبعها بالمنّ ، والأذى. ثم مثّله ثانيا : ب «الصّفوان» الذي وقع عليه تراب ، وغبار ، ثم أصابه المطر القويّ ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلا ، فالكافر كالصّفوان ، والتّراب مثل ذلك الإنفاق ، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر ، وكالمنّ والأذى اللّذين يحبطان عمل هذا المنفق.
قال : فكما أنّ الوابل أزال التّراب الذي وقع على الصّفوان ، فكذلك المنّ والأذى ، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله ، وذلك صريح في القول بالإحباط.
قال الجبّائيّ (٢) : وكما دلّ هذا النّص على صحّة قولنا فالعقل دلّ عليه أيضا ؛ لأن
__________________
(١) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١١٢.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ٤٤.