للحقّ ، وكان من الجائز أيضا أن يكون بعض الناس مطّلعا على أحوالهم ، فهاهنا ندب الله ذلك المطلع إلى أن يسعى (١) في إحياء ذلك الحق ، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه ، ومنعه من كتمان الشّهادة سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة ، أم لا ، وشدّد فيه بأن جعله آثم القلب بكتمانها.
وقد قال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «خير الشّهود من شهد قبل أن يستشهد» (٢).
الثاني : أنّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة ، ونظيره قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [البقرة : ١٤٠] والمراد الجحود وإنكار العلم.
الثالث : كتمان الشهادة : هو الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، كما تقدّم في قوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في وعيده.
وقرأ أبو عبد الرحمن (٣) «ولا يكتموا» بياء الغيبة ؛ لأن قبله غيبا وهم من ذكر في قوله : «كاتب ولا شهيد».
قوله : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) في هذا الضمير وجهان :
أحدهما : أنه ضمير الشأن ، والجملة بعده مفسّر له.
والثاني : أنه ضمير «من» في قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها) وهذا هو الظاهر.
وأمّا (آثِمٌ قَلْبُهُ) ففيه أوجه :
أظهرها : أنّ الضمير في «إنّه» ضمير «من» و «آثم» خبر «إنّ» ، و «قلبه» فاعل ب «آثم» ، نحو قولك : «زيد إنّه قائم أبوه» ، وعمل اسم الفاعل هنا واضح ؛ لوجود شروط الإعمال ، ولا يجيء هذا الوجه على القول بأنّ الضمير ضمير الشأن ؛ لأنّ ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة ، واسم الفاعل مع فاعله عند البصريّين مفرد ، والكوفيّون يجيزون ذلك.
الثاني : أن يكون «آثم» خبرا مقدّما ، و «قلبه» مبتدأ مؤخرا ، والجملة خبر «إنّ» ، ذكره الزمخشريّ وأبو البقاء (٤) وغيرهما وهذا لا يجوز على أصول الكوفيّين ؛ لأنه لا يعود عندهم الضّمير المرفوع على متأخّر لفظا ، و «آثم» قد تحمّل ضميرا ، لأنه وقع خبرا ؛
__________________
(١) في ب : يبقى.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٩٢) كتاب الأحكام باب الرجل عنده الشهادة لا يعلم بها صاحبها رقم (٢٣٦٤) وأحمد (٥ / ٢٦٥) والطبراني في «الكبير» (٥ / ٢٦٥) عن زيد بن خالد الجهني.
وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه كما في «كنز العمال» (٧ / ١٦) رقم (١٧٧٤٩) عن ابن ميسرة بلاغا.
(٣) انظر : البحر المحيط ٢ / ٣٧٣ ، الدر المصون ١ / ٦٩٠.
(٤) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ١٢١.