وقال آخرون : الآية من باب الخبر ، والنّسخ لا يتطرّق إلى الأخبار ، إنما يرد على الأمر والنّهي ، وقوله : «يحاسبكم به الله» خبر ، وهؤلاء ذكروا في الآية وجوها :
الأول : أن الخواطر الواردة على النّفس قسمان :
منها : ما يعزم على فعله وإيجاده ، فيكون مؤاخذا به ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥] ، وقال بعد هذه الآية : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ١٩].
ومنها : ما يخطر بالبال مع أنّ الإنسان يكرهها ولا يمكنه دفعها ، فهذا لا يؤاخذ به.
الثاني : أن كلّ ما كان في القلب ممّا لا يدخل في العمل ؛ فإنه في محلّ العفو.
وقوله : «إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه» فالمراد منه أن يوجد ذلك العمل ، إمّا ظاهرا
وإمّا خفية ، وأمّا ما يوجد في القلب من العزائم والإرادات ، ولم تتّصل بعمل ، فذلك في محلّ العفو.
قال ابن الخطيب (١) : وهذا ضعيف ؛ لأن أكثر المؤاخذات إنّما تكون بأفعال القلوب ؛ ألا ترى أنّ اعتقاد الكفر والبدع ليس إلّا من أعمال القلوب ، وأعظم أنواع العقاب مترتّب عليه.
وأيضا : فأفعال الجوارح إذا خلت عن أفعال القلوب ، لا يترتّب عليها عقاب ؛ كأفعال النّائم والسّاهي.
الثالث : قال (٢) الحسن : كلّ من أسرّ عملا أو أعلنه من حركة من جوارحه ، أو همّة في قلبه ، إلّا يخبره الله به ويحاسبه عليه ، ثم يغفر ما يشاء ويعذّب من يشاء ؛ لأن الله ـ تعالى ـ أثبت للقلب كسبا ؛ فقال : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [البقرة : ٢٢٥].
الرابع : أن الله ـ تعالى ـ يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ، ويعاقبهم عليه ، غير أنّ معاقبته على ما أخفوه ممّا يعملوه هو ما يحدث لهم في الدّنيا من الهمّ والغمّ والمصائب ، والأمور التي يحزنون عليها.
روى الضّحّاك عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : قالت : سألت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ما حدّث العبد به نفسه من شرّ كانت محاسبة الله ـ تعالى ـ عليه ، فقال : يا عائشة ، هذه معاتبة الله ـ عزوجل ـ العبد بما يصيبه من الحمّى والنّكبة ، حتّى الشّوكة والبضاعة يضعها
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٧ / ١٠٩.
(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٢٧٢.