الاستدلال : أنّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليل الحلّ ، ودليل الحرمة تساقطا ؛ فوجب بقاء حكم الأصل ، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال : أحلّتهما آية ، وحرّمتهما آية (١) ، فحكم عند ذلك بالتّحريم للسّبب الذي ذكرناه ، فكذا هاهنا.
وثالثها : حكى ابن جرير الطّبريّ في «تفسيره» عن ابن عبّاس تحريم أصناف النّساء إلّا المؤمنات ، واحتجّ بقوله : (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ)(٢) [المائدة : ٥] ، وإذا كان كذلك فالكتابيّة كالمرتدّة في أنه لا يجوز العقد عليها.
ورابعها : أنّ طلحة نكح يهوديّة ، وحذيفة نصرانيّة ، فغضب عمر عليهما غضبا شديدا ، فقالا : نطلق يا أمير المؤمنين ، فلا تغضب. فقال : إنّ من أحلّ طلاقهنّ ، فقد أحلّ نكاحهنّ ، ولكن أنتزعهنّ (٣) منكما.
وأجيب عن الأوّل بأنّ من قال : الكتابيّ لا يدخل تحت اسم المشرك ، فالإشكال عنه ساقط ، ومن سلّم ذلك ، قال إنّ قوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] أخص من هذه الآية ، فإذا كانت هذه الحرمة ثابتة ، ثم زالت كان قوله: «والمحصنات» ناسخا ، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصّصة ، وإن كان النّسخ والتّخصيص خلاف الأصل إلّا أنّه إنما لما كان لا سبيل إلى التّوفيق بين الآيتين إلّا بهذا الطّريق ؛ وجب المصير إليه.
وقولهم : إنّ نكاح الوثنيّة إنّما حرّم ؛ لأنّها تدعو إلى النّار ، وهذا المعنى موجود في الكتابيّة.
قلنا : الفرق بينهما أنّ المشركة متظاهرة بالمخالفة ، فلعلّ الزّوج يحبّها ، ثم إنّها تحمله على مقاتلة المسلمين ، وهذا المعنى غير موجود في الذّمّيّة ؛ لأنها مقهورة راضية بالذّلّة ، والمسكنة ، فلا يتضمّن نكاحها المقاتلة.
وقولهم : تعارضت آية التّحريم (٤) ، وآية التّحليل (٥). قلنا : آية التّحليل خاصّة ، ومتأخّرة بالإجماع ؛ فوجب تقديمها على آية التّحريم ، بخلاف الآيتين ، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين ، لأنّ كلّ واحدة منهما أخصّ من الأخرى من وجه ، وأعمّ من وجه آخر ، فلم يحصل فيه سبب التّرجيح.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٠.
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٤ / ٣٦٤) عن ابن عباس وذكره ابن كثير في «تفسيره» (١ / ٥٠٧) وقال : هذا حديث غريب جدا.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٦ / ٥٠ ـ ٥١.
(٤) في ب : التحليل.
(٥) في ب : التحريم.