الثاني : قوله في دم الحيض «هو أذى» ، ذكر كونه أذّى في معرض العلّة ، لوجوب الاعتزال ، وإنّما كان «أذّى» للرّائحة المنكرة التي فيه ، واللون الفاسد وللحدة القوية الّتي فيه ، وإذا كان وجوب الاعتزال معللا بهذه المعاني ، وجب الاحتراز عملا بالعلّة المذكورة في كتاب الله.
واحتجّ الشّافعيّ على أبي حنيفة بوجهين :
الأول : أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته ، وفي الزّائد عن العشرة لأنه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم ، فإذا وجد ذلك ، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوما باتّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة ؛ فوجب أن يبقى معمولا به في هذه المدّة.
الثاني : أنّه ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ بيّن نقصان دينها : بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي (١) ، وهذا يدلّ على أنّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوما ؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوما ؛ فيكون الحيض نصف عمرها ، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصّلاة نصف عمرها.
أجاب أبو بكر الرّازيّ عنه (٢) بوجهين :
الأوّل : أن الشّطر ليس هو النّصف ، بل هو البعض.
__________________
(١) هو حديث : تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي. قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص ـ ١٦٤ ، ١٦٥) :
لا أصل له بهذا اللفظ ، فقد قال أبو عبد الله ابن منده فيما حكاه عنه ابن دقيق العيد في الإمام : ذكر بعضهم هذا الحديث ، ولا يثبت بوجه من الوجوه ، وقال البيهقي في المعرفة هذا الحديث يذكره بعض فقهائنا ، وقد تطلبته كثيرا فلم أجده في شيء من كتب الحديث ، ولم أجد له إسنادا ، وقال ابن الجوزي في التحقيق : هذا لفظ يذكره أصحابنا ولا أعرفه ، وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذب : لم أجده بهذا اللفظ إلا في كتب الفقهاء ، وقال النووي في شرحه : باطل لا يعرف ، وفي الخلاصة : باطل لا أصل له ، وقال المنذري : لم يوجد له إسناد بحال ، وأغرب الفخر ابن تيمية في شرح الهداية لأبي الخطاب ، فنقل عن القاضي أبي يعلى أنه قال : ذكره عبد الرحمن بن أبي حاتم البستي في كتاب السنن له كذا قال! وابن أبي حاتم ليس بستيّا ، وإنما هو رازيّ وليس له كتاب يقال له «السنن» ، وفي قريب من معناه ، ما اتفقا عليه من حديث أبي سعيد مرفوعا : أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم فذاك من نقصان دينها ، ورواه مسلم من حديث ابن عمر بلفظ : تمكث الليالي ما تصلي وتفطر في شهر رمضان ، فهذا نقصان دينها ، ومن حديث أبي هريرة كذلك ، وفي المستدرك من حديث ابن مسعود نحوه ، ولفظه : فإن إحداهن تقعد ما شاء الله من يوم وليلة لا تسجد لله سجدة ، قال شيخنا : هذا وإن كان قريبا من معناه لكنه لا يعطي المراد منه.
(٢) في ب : عليه.