هذا الموضع ، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل ، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب ، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى ، فلأن تكون الهاء في قوله (مِنْ قَوْمِهِ) من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون ، لبعد ذكره منها.
ولأن في قوله (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ) الدليل الواضح على أن الهاء في قوله (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) من ذكر موسى لا من ذكر فرعون ، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه ، ولم يكن على خوف من فرعون ..» (١).
وقوله : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ...) حال من كلمة (ذُرِّيَّةٌ) ، و (عَلى) هنا بمعنى مع. والضمير في قوله (مَلَائِهِمْ) يعود إلى ملأ الذرية ، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى ـ عليهالسلام ـ.
والمعنى : فما آمن لموسى الا عدد قليل من شباب قومه ، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم ، أى : أن يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى ـ عليهالسلام.
والضمير في (يَفْتِنَهُمْ) يعود إلى فرعون خاصة ، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره ، وينتهون عن نهيه ، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء.
وجملة (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) في تأويل مصدر ، بدل اشتمال من فرعون ، أى : على خوف من فرعون فتنته.
وقوله : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله ، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه.
أى : وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها ، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغي وادعاء ما ليس له.
والمتجبرون والمسرفون يحتاجون في مقاومتهم إلى إيمان عميق ، واعتماد على الله وثيق ، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة ، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين : (يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ).
أى : قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم ، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم : يا قوم (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) حق الإيمان ، وأسلمتم وجوهكم له حق الإسلام فعليه وحده
__________________
(١) تفسير أبن جرير ج ٧ ص ١٠٤ طبعة دار المعرفة ـ بيروت.