أى : فمن تبعني من الناس في ديني وعقيدتي ، فإنه يصير بهذا الاتباع من أهل ديني وهو دين الإسلام ، ومن عصاني ولم يقبل الدخول في الدين الحق ، فإنى أفوض أمره إليك ، فأنت ـ سبحانك ـ لا تسأل عما تفعل وغيرك يسأل.
فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامي ، والخلق العالي ، الذي كان يتحلى به إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في مخاطبته لربه ـ عزوجل ـ حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيها برأى ، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع في العذاب الأليم.
وشبيه بهذه الآية ما حكاه ـ سبحانه ـ عن عيسى ـ عليهالسلام ـ في قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).
هذا ، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين ، من أن قول إبراهيم ـ عليهالسلام ـ «ومن عصاني فإنك غفور رحيم» كان قبل أن يعلم بأن الله لا يغفر الشرك ، أو أن المراد بالمعصية هنا مادون الشرك ، أو أن المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك ..» (٢).
نقول : لا نرى وجها لكل ذلك ، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء بالمغفرة لمن عصى ، وإنما المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى الله ـ تعالى ـ إن شاء غفر لهم ورحمهم ، وإن شاء عذبهم.
ثم حكى ـ سبحانه ـ دعاء آخر من تلك الأدعية التي تضرع بها إبراهيم إليه ـ تعالى ـ فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ..).
و «من» في قوله «من ذريتي» للتبعيض.
والوادي : هو المكان المنخفض بين مرتفعات ، والمقصود به وادي مكة المكرمة.
والمعنى : يا ربنا إنى أسكنت بعض ذريتي وهو ابني إسماعيل ومن يولد له ، بواد غير ذي زرع قريبا من بيتك المحرم ، أى : الذي حرمت التعرض له بسوء توقيرا وتعظيما ، والذي جعلته مثابة للناس وأمنا ، وفضلته على غيره من الأماكن.
وقوله (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) بيان للباعث الذي دفعه لإسكان بعض ذريته في هذا المكان الطيب.
__________________
(١) سورة المائدة آية ١١٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢١١.