والذي نراه أن القول الأول أقرب إلى الصواب ، لأن حمل الظلم هنا على الشرك تخصيص بدون مخصص ، حيث لم يرد عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديث صحيح يخصصه بذلك ، فوجب حمل الظلم على معناه الحقيقي الذي يتناول الشرك وغيره.
ثم أخبر ـ سبحانه ـ بأن قدرته لا يعجزها شيء فقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً).
والأمة : القوم المجتمعون على أمر واحد ؛ يقتدى فيه بعضهم ببعض ، وهذا اللفظ مأخوذ من «أم» بمعنى قصد ، لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده في مختلف شئونه.
ولو شرطية امتناعية ، ومفعول فعل المشيئة محذوف والتقدير :
ولو شاء ربك ـ أيها الرسول الكريم الحريص على إيمان قومه ـ أن يجعل الناس جميعا أمة واحدة مجتمعة على الدين الحق لجعلهم ، ولكنه ـ سبحانه ـ لم يشأ ذلك ، ليتميز الخبيث من الطيب ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ...).
وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى ...).
وقوله (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) تأكيد لما اقتضته سنته من اختلاف الناس.
أى : ولا يزالون ما بقيت الدنيا مختلفين في شأن الدين الحق ، فمنهم من دخل فيه وآمن به ، ومنهم من أعرض عنه ، إلا الذين رحمهم ربك منهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم من أول الأمر ، فإنهم لم يختلفوا ، بل اتفقوا على الإيمان بالدين الحق فعصمهم الله ـ تعالى ـ من الاختلاف المذموم.
قال الإمام ابن كثير : وقوله (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أى : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين الذي أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي صلىاللهعليهوسلم الأمى خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ونصروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة. وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة. قالوا : ومن هم يا رسول الله ، قال : ما أنا عليه وأصحابى» (١).
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٩١.