قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وسأل في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن ، كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا ..» (١).
وقوله ـ سبحانه ـ (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) حكاية لدعوة أخرى من الدعوات التي تضرع بها إبراهيم ـ عليهالسلام ـ إلى خالقه ـ سبحانه ـ.
وقوله «واجنبنى» بمعنى وأبعدنى مأخوذ من قولك جنبت فلانا عن كذا ، إذا أبعدته عنه ، وجعلته في جانب آخر ، وفعله جنب من باب نصر.
والمراد ببنيه : أولاده من صلبه ، أوهم من تناسل معهم.
والأصنام جمع صنم ، وهو التمثال الذي كان مشركو العرب يصنعونه من الحجر ونحوه لكي يعبدوه من دون الله.
والمعنى : أسألك يا ربي أن تجعل مكة بلدا آمنا ، كما أسألك أن تعصمني وتعصم ذريتي من بعدي من عبادة الأصنام ، وأن تجعل عبادتنا خالصة لوجهك الكريم.
وقد بين ـ سبحانه ـ في آيات أخرى ، أنه قد أجابه في بعض ذريته دون بعض.
ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ* كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ* وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (٢).
وقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ...) تعليل لسؤال إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام.
أى : يا رب لقد تضرعت إليك بأن تعصمني وبنىّ عن عبادة الأصنام ، لأنها كانت سببا في إضلال كثير من الناس عن اتباع الحق ، وعن الهداية إلى الصراط المستقيم.
وأسند الإضلال إليها مع أنها جمادات لا تعقل ، لأنها كانت سببا في إضلال كثير من الناس ، فكأنها أضلتهم ، فنسبة الإضلال إليها مجازية من باب نسبة الشيء إلى سببه ، كما يقال : فلان فتنته الدنيا وأضلته ، وهو إنما فتن وضل بسببها.
وقوله ـ سبحانه ـ (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بيان لموقفه ـ عليهالسلام ـ من المهتدين والضالين.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٧٩.
(٢) سورة الصافات الآيات ١٠٩ ـ ١١٣.