ثانيا ، عادة مطردة في القرآن ، فقد حكى ـ سبحانه ـ عن إبراهيم أنه ذكر ذلك فقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) وعن موسى أنه قال : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) وأمر محمدا صلىاللهعليهوسلم بذلك فقال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى). وهو في الحقيقة دليل شريف ، لأن الإنسان له جسد وله روح ، فالاستدلال على وجود الصانع بأحوال الجسد هو الخلق ، والاستدلال بأحوال الروح هو الهداية ، فهاهنا أيضا لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى وهو قوله : (مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية (١).
وقوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي) ورد فيه ست قراءات ، منها قراءة يعقوب وحفص بكسر الهاء وتشديد الدال ، ومنها قراءة حمزة والكسائي بالتخفيف كيرمى ، ومنها قراءة ابن كثير وابن عامر وورش عن نافع «يهدى» فتح الياء والهاء وتشديد الدال .. (٢).
والاستثناء في قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) مفرغ من أعم الأحوال.
والتقدير : أفمن يهدى إلى الحق أحق بالاتباع ، أم من لا يستطيع الهداية إلا أن يهديه إليها غيره أحق بالاتباع؟
وجاء قوله ـ سبحانه ـ (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) باستفهامين متواليين ، زيادة في توبيخهم وتقريعهم ، ولفت أنظارهم إلى الحق الواضح الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم.
وقوله : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ...) توبيخ آخر لهم على انقيادهم للأوهام والظنون ، وتسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم عما أصابه منهم من إساءات.
أى : إن هؤلاء الذين أعرضوا عن دعوتك يا محمد ، لا يتبعون في عقائدهم وعبادتهم لغير خالقهم سوى الظنون والأوهام التي ورثها الأبناء عن الآباء.
وخص أكثرهم بالذكر ، لأن هناك قلة منهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ، ولكنهم لا يتبعونه عنادا وجحودا وحسدا ، كما قال ـ تعالى ـ (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) (٣).
ويجوز أن يكون ـ سبحانه ـ خص أكثرهم بالذكر ، للإشارة إلى أن هناك قلة منهم تعرف الحق ، وستتبعه في الوقت الذي يريده الله ـ تعالى.
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٩٠.
(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٤١.
(٣) سورة الأنعام الآية ٣٣.