النقص على سبيل التأكيد ، وزيادة الترغيب في دعوته فقال : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) ...
أى : ويا قوم أوفوا عند معاملاتكم أدوات كيلكم وأدوات وزنكم ، ملتزمين في كل أحوالكم العدل والقسط.
(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ...) أى : ولا تنقصوهم شيئا من حقوقهم. يقال : بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه وانتقصه. وهو يشمل النقص والعيب في كل شيء ..
والجملة الكريمة تعميم بعد تخصيص ، لكي تشمل غير المكيل والموزون كالمزروع والمعدود ، والجيد والرديء ...
قال الجمل ما ملخصه : وقد كرر ـ سبحانه ـ نهيهم عن النقص والبخس وأمرهم بالوفاء ... لأن القوم لما كانوا مصرين على ذلك العمل القبيح ، وهو تطفيف الكيل والميزان ومنع الناس حقوقهم ، احتيج في المنع منه إلى المبالغة في التأكيد ، ولا شك أن التكرير يفيد شدة الاهتمام والعناية بالمأمور به والمنهي عنه ، فلهذا كرر ذلك ليقوى الزجر والمنع من ذلك الفعل ...» (١).
وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) تحذير لهم من البطر والغرور واستعمال نعم الله في غير ما خلقت له.
قال ابن جرير : «وأصل العثى شدة الإفساد ، بل هو أشد الإفساد. يقال عثى فلان في الأرض يعنى ـ كرضى يرضى ـ إذا تجاوز الحد في الإفساد ...» (٢).
أى : ولا تسعوا في أرض الله بالفساد ، وتقابلوا نعمه بالمعاصي ، فتسلب عنكم ثم أرشدهم إلى أن ما عند الله خير وأبقى مما يجمعونه عن الطريق الحرام فقال : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ).
ولفظ (بَقِيَّتُ) اسم مصدر من الفعل : بقي ، ضد : فنى. وإضافتها إلى الله ـ تعالى ـ إضافة تشريف وتيمن.
أى : ما يبقيه الله لكم من رزق حلال ، ومن حال صالح ، ومن ذكر حسن ، ومن أمن وبركة في حياتكم ... بسبب التزامكم بالقسط في معاملاتكم ، هو خير لكم من المال الكثير الذي تجمعونه عن طريق بخس الناس أشياءهم.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٤١٦.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١ ص ٣٠٨.