حيث مصدره ، بعد أن وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات أى : هذا الكتاب الذي أتقنت آياته إتقانا بديعا ، وفصلت تفصيلا رصينا ، ليس هو من عند أحد من الخلق ، وإنما هو من عند الخالق الحكيم في كل أقواله وأفعاله ، الخبير بظواهر الأمور وبواطنها.
قال الشوكانى : وفي قوله (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) لف ونشر ، لأن المعنى : أحكمها حكيم ، وفصلها خبير ، عالم بمواقع الأمور (١).
وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) جملة تعليلية ، أى : أنه ـ سبحانه ـ فعل ما فعل من إحكام الكتاب وتفصيله وتنزيله من لدن حكيم خبير ، لكي تخلصوا له العبادة والطاعة ، وتتركوا عبادة غيره ؛ لأن من أنزل هذا الكتاب المعجز ، من حقه أن يفرد بالخضوع والاستعانة.
وقوله : (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) بيان لوظيفة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
والضمير المجرور في «منه» يعود على الله ـ تعالى ـ.
أى : عليكم ـ أيها الناس ـ أن تخلصوا لله ـ تعالى ـ العبادة والطاعة ، فإنه ـ سبحانه ـ قد أرسلنى إليكم لكي أنذر الذين فسقوا عن أمره بسوء العاقبة ، وأبشر الذين استجابوا لدعوته بحسن المثوبة.
وقدم ـ سبحانه ـ الإنذار على التبشير ؛ لأن الخطاب موجه إلى الكافرين ، الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.
قال بعضهم : «والجمع بين النذارة والبشارة ، لمقابلة ما تضمنته الجملة الأولى من طلب ترك عبادة غير الله. بطريق النهى ، وطلب عبادة الله بطريق الاستثناء ، فالنذارة ترجع إلى الجزء الأول ، والبشارة ترجع إلى الجزء الثاني» (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما يترتب على طاعته من خيرات فقال : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ..).
والاستغفار طلب المغفرة والرحمة من الله ـ تعالى ـ.
والتوبة : الإقلاع عن كل ما نهى الله ، مع التصميم على عدم العودة إلى ذلك في المستقبل.
__________________
(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٤٨٠.
(٢) تفسير التحرير والتنوير للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ج ١١ ص ٣١٥.