الله ـ تعالى ـ ما يسرونه في قلوبهم من أفكار ، وما يعلنونه بأفواههم من أقوال ، لأنه ـ سبحانه ـ محيط بما تضمره النفوس من خفايا ، وما يدور بها من أسرار.
وجملة (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليلية لتأكيد ما قبلها من علمه ـ سبحانه ـ بالسر والعلن. والمراد بذات الصدور : الأسرار المستكنة فيها.
هذا ، وقد ذكر ابن كثير رواية أخرى في سبب نزول هذه الآية فقال : قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية رواه البخاري من حديث ابن جريج.
وفي لفظ آخر له قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم ..» (١).
وظاهر من هذا الكلام المنقول عن ابن عباس أنها نزلت في شأن جماعة من المسلمين هذا شأنهم ، ولعل مراده أن الآية تنطبق على صنيعهم وليس فعلهم هو سبب نزولها ، لأن الآية مسوقة للتوبيخ والذم ، والذين يستحقون ذلك هم أولئك المشركون وأشباههم الذين أعرضوا عن الحق ، وجهلوا صفات الله ـ تعالى ـ.
قال الجمل بعد أن ذكر قول ابن عباس : وتنزيل الآية على هذا القول بعيد جدا ، لأن الاستحياء من الجماع وقضاء الحاجة في حال كشف العورة إلى جهة السماء ، أمر مستحسن شرعا ، فكيف يلام عليه فاعله ويذم بمقتضى سياق الآية» (٢).
وإذا فالذي يستدعيه السياق ويقتضيه ربط الآيات ، كون الآية في ذم المشركين ومن على شاكلتهم من المنحرفين عن الطريق المستقيم.
ثم ساق ـ سبحانه ـ ما يدل على كمال قدرته ، وسابغ فضله ، وشمول علمه فقال ـ تعالى ـ :
(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٣٨.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٨٠.