ففي هذه الجملة الكريمة تشبيه بليغ ، حيث شبه ـ سبحانه ـ القرى التي بعض آثارها ما يزال باقيا بالزرع القائم على ساقه ، وشبه ما زال منها واندثر بالزرع المحصود.
وحصيد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه ، أى منها قائم ومنها حصيد.
وقوله ـ سبحانه ـ (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ : ..) بيان لمظاهر عدله في قضائه وأحكامه.
والضمير المنصوب في (ظَلَمْناهُمْ) يعود إلى أهل هذه القرى ، لأنهم هم المقصودون بالحديث.
أى : وما ظلمنا أهل هذه القرى بإهلاكنا إياهم ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ، بسبب إصرارهم على الكفر ، وجحودهم للحق ، واستهزائهم بالرسل الذين جاءوا لهدايتهم ...
ثم بين ـ سبحانه ـ موقف آلهتهم المخزى منهم فقال : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ..).
أى : أن هؤلاء المهلكين عند ما نزل بهم العذاب ، لم تنفعهم أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله شيئا من النفع ... بل هي لم تنفع نفسها فقد اندثرت معهم كما اندثروا.
والفاء في قوله ـ سبحانه ـ (فَما أَغْنَتْ) للتفريع على ظلمهم لأنفسهم ، لأن اعتمادهم على شفاعة الأصنام ، وعلى دفاعها عنهم ... من مظاهر جهلهم وغبائهم وظلمهم لأنفسهم.
و (مِنْ) في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) لتأكيد انتفاء النفع والإغناء : أى : لم تغن عنهم شيئا ولو قليلا من الإغناء ؛ ولم تنفعهم لا في قليل ولا كثير ...
وجملة (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) تأكيد لنفى النفع ، وإثبات للضر والخسران.
والتتبيب : مصدر تب بمعنى خسر ، وتبب فلان فلانا إذا أوقعه في الخسران.
ومنه قوله ـ تعالى ـ (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) أى : هلكتا وخسرتا كما قد هلك وخسر هو.
أى : وما زادتهم أصنامهم التي كانوا يعتمدون عليها في دفع الضر سوى الخسران والهلاك.
قال الإمام الرازي : والمعنى : أن الكفار كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين على تحصيل المنافع ودفع المضار ، ثم إنه ـ تعالى ـ أخبر أنهم عند مساس الحاجة إلى المعين ، ما وجدوا منها شيئا لا جلب نفع ولا دفع ضر ، ثم كما لم يجدوا ذلك فقد وجدوا ضده ، وهو أن ذلك الاعتقاد