إذ أن كلا من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد ، إلا أن العاقل عند ما يأخذ في الأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور ، وأن الأسباب ما هي إلا أمور عادية ، يوجد الله ـ تعالى ـ معها ما يريد إيجاده ، ويمنع ما يريد منعه ، فهو الفعال لما يريد. ويعقوب ـ عليهالسلام ـ عند ما أوصى أبناءه بهذه الوصية ، أراد بها تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه ، مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع الله ـ تعالى ـ واضع الأسباب ومشرعها ...
ثم بين ـ سبحانه ـ أن الأبناء قد امتثلوا أمر أبيهم لهم فقال : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ، ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها).
والمراد بالحاجة هنا : نصيحته لأبنائه بأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، خوفا عليهم من الحسد. ومعنى «قضاها» أظهرها ولم يستطع كتمانها يقال : قضى فلان حاجة لنفسه إذا أظهر ما أضمره فيها.
أى : وحين دخل أبناء يعقوب من الأبواب المتفرقة التي أمرهم أبوهم بالدخول منها. «ما كان» هذا الدخول «يغنى عنهم» أى يدفع عنهم من قدر «الله من شيء» قدره عليهم ، ولكن الذي حمل يعقوب على أمرهم بذلك ، حاجة أى رغبة خطرت في نفسه «قضاها» أى : أظهرها ووصاهم بها ولم يستطع إخفاءها لشدة حبه لهم مع اعتقاده بأن كل شيء بقضاء الله وقدره.
وقوله ـ سبحانه ـ (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) ثناء من الله ـ تعالى ـ على يعقوب بالعلم وحسن التدبير.
أى : وإن يعقوب ـ عليهالسلام ـ لذو علم عظيم ، للشيء الذي علمناه إياه عن طريق وحينا ، فهو لا ينسى منه شيئا إلا ما شاء الله.
وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أى : لا يعلمون ما يعلمه يعقوب ـ عليهالسلام ـ من أن الأخذ بالأسباب لا يتنافى مع التوكل على الله ـ تعالى ـ أو : ولكن أكثر الناس لا يعلمون ما أعطاه الله ـ تعالى ـ لأنبيائه وأصفيائه من العلم والمعرفة وحسن التأني للأمور.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد فصلت الحديث عما دار بين إخوة يوسف وبين أبيهم في شأن سفر أخيهم معهم .. فماذا كان بعد ذلك؟
لقد كان بعد ذلك أن سافر إخوة يوسف إلى مصر ، ومعهم «بنيامين» الشقيق الأصغر ليوسف ، والتقوا هناك بيوسف ، وتكشف هذا اللقاء عن أحداث مثيرة ، زاخرة بالانفعالات