لهم المواعظ ، ويطوف بهم في مجالات الترغيب والترهيب ..
ولكن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد نهايته ، ومن الجهل أقصاه ... فقد ردوا على هذه النصائح الغالية بقولهم : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ...).
أى : قال قوم شعيب له على سبيل التحدي والتكذيب : يا شعيب إننا لا نفهم الكثير من قولك ، لأنه قول لم نألفه ولم تتقبله نفوسنا ، ولقد أطلت في دعوتنا إلى عبادة الله وترك النقص في الكيل والميزان حتى مللنا دعوتك وسئمناها ، وصارت ثقيلة على مسامعنا ، وخافية على عقولنا ...
فمرادهم بهذه الجملة الاستهانة به ، والصدود عنه ، كما يقول الرجل لمن لا يعبأ بحديثه : لا أدرى ما تقوله ، ولا أفهم ما تتفوه به من ألفاظ.
قال أبو السعود ما ملخصه : والفقه : معرفة غرض المتكلم من كلامه ، أى : ما نفهم مرادك وإنما قالوا ذلك بعد أن سمعوا منه دلائل الحق البين على أحسن وجه وأبلغه ، وضاقت عليهم الحيل ، فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا ... كما هو ديدن المفحم المحجوج ، يقابل النصائح البينات بالسب والإبراق والإرعاد ... إذ جعلوا كلامه المشتمل على الحكم من قبيل ما لا يفهم معناه ....» (١).
ثم قالوا له ـ ثانيا ـ (وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً) أى : لا قوة لك إلى جانب قوتنا ، ولا قدرة عندك على مقاومتنا إن أردنا قتلك أو طردك من قريتنا.
ثم قالوا له .. ثالثا ـ (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) ورهط الرجل : قومه وعشيرته الأقربون. ومنه الراهط لجحر اليربوع ، لأنه يحتمي فيه ...
ولفظ (الرهط) اسم جمع يطلق غالبا على العصابة دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة.
أى : ولو لا عشيرتك التي هي على ملتنا وشريعتنا لرجمناك بالحجارة حتى تموت ، ولكن مجاملتنا لعشيرتك التي كفرت بك هي التي جعلتنا نبقى عليك.
ثم قالوا له ـ رابعا ـ (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) أى : وما أنت علينا بمكرم أو محبوب أو قوى حتى نمتنع عن رجمك ، بل أنت فينا الضعيف المكروه ...
وهنا نجد شعيبا ـ عليهالسلام ـ ينتقل في أسلوب مخاطبته لهم من اللين إلى الشدة ، ومن
__________________
(١) تفسير أبى السعود ج ص.