فليس المراد نفى السماع والإبصار الحسيين عنهم وإنما المراد أنهم لانطماس بصائرهم صاروا كمن لا يسمع ولا يرى.
ثم أكد ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).
أى : أولئك الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، هم الذين خسروا أنفسهم وأوردوها المهالك بسبب تعمدهم الكذب على الله ، (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أى : وغاب عنهم ما كانوا يفترونه في الدنيا من اعتقادات باطلة وادعاءات فاسدة.
وقوله (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) زيادة في تأكيد خسرانهم.
وكلمة (لا جَرَمَ) وردت في القرآن الكريم في خمسة مواضع. وفي كل موضع جاءت متلوة بأن واسمها.
وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ومعناها بعد هذا التركيب معنى الفعل : حق أو ثبت ، والجملة بعدها هي الفاعل لهذا الفعل.
أى : وثبت كونهم في الآخرة هم الأخسرون.
ومن النحاة من يرى أن «لا» نافية للجنس و «جرم» اسمها وما بعدها خبرها.
والمعنى. لا محالة ولا شك في أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
ثم بين ـ سبحانه ـ حسن عاقبة المؤمنين بعد بيان سوء عاقبة الكافرين فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
قال الجمل : والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب. ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام. فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه. وإذا قلت أخبت له فمعناه : خشع وخضع له. فقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) إشارة الى جميع أعمال الجوارح. وقوله : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله ـ تعالى ـ» (١).
والمعنى : إن الذين آمنوا بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات التي ترضيه ـ سبحانه ـ واطمأنوا إلى قضاء ربهم وخشعوا له أولئك الموصوفون بذلك هم أصحاب الجنة وهم الخالدون فيها خلودا أبديا وهم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٨٩.