تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به» (١).
وقد أجمع العلماء على أن همّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها «هيت لك».
كما أجمعوا على أن يوسف ـ عليهالسلام ـ لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم ...
وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرارة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل.
والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله ـ تعالى ـ في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به.
أو هو ـ كما يقول ابن جرير ـ رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به ..
والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف ـ عليهالسلام ـ قصدا جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها ...
(وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعي لهذا الميل ...
ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله ـ تعالى ـ له على مقاومة شهوته ... كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة.
هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين.
فمن المفسرين القدامى الذين ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه.
وقوله ـ تعالى ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ «وهم بها» أى : وهم بمخالطتها «لولا أن رأى برهان ربه» جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله معناه : لو لا أنى خفت الله لقتلته.
__________________
(١) تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٥٢٨.