فإن قيل : فإن ذلك يعارضه ما جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الأحاديث الصحيحة من نهيه عن طلب الإمارة ...
فالجواب : أولا : أن يوسف ـ عليهالسلام ـ إنما طلب الولاية لأنه علم أنه لا أحد يقوم مقامه في العدل والإصلاح وتوصيل الفقراء إلى حقوقهم ، فرأى أن ذلك فرض متعين عليه ، فإنه لم يكن هناك غيره ...
الثاني : أنه لم يقل اجعلنى على خزائن الأرض لأنى حسيب كريم ، وإن كان كذلك ، ولم يقل إنى جميل مليح ... وإنما قال (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فسألها بالحفظ والعلم لا بالنسب والجمال.
الثالث : إنما قال ذلك عند من لا يعرفه فأراد تعريف نفسه ، وصار ذلك مستثنى من قوله ـ تعالى ـ (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ...) (١).
والخلاصة أن يوسف ـ عليهالسلام ـ إنما قال ما قال للملك ، وطلب ما طلب منه ، لأنه علم أن هذا المنصب لا يصلح له أحد سواه في ذلك الوقت وفي تلك الظروف ، فهو يريد من ورائه خدمة الأمة لأجر منفعة شخصية لنفسه ...
وما قاله إنما هو من باب التحدث بنعمة الله ـ تعالى ـ الذي أعطاه هذه الصفات الكريمة ، والمناقب العالية ، وليس من باب تزكية النفس المحظورة.
هذا ، وقوله ـ سبحانه ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ...) بيان لسنة الله ـ تعالى ـ في خلقه ، من كونه ـ سبحانه ـ لا يضيع أجر الصابرين المحسنين أى : ومثل هذا التمكين العظيم. مكنا ليوسف في أرض مصر ، بعد أن مكث في سجنها بضع سنين ، لا لذنب اقترفه ، وإنما لاستعصامه بأمر الله.
وقوله (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) تفصيل للتمكين الذي منحه الله ـ تعالى ـ ليوسف في أرض مصر ، والتبوأ اتخاذ المكان للنزول به. يقال : بوأ فلان فلانا منزلا. أى مكنه منه وأنزله به أى : ومثل هذا التمكين العظيم ، مكنا ليوسف في أرض مصر ، حيث هيأنا له أن ينتقل في أماكنها ومنازلها حيث يشاء له التنقل ، دون أن يمنعه مانع من الحلول في أى مكان فيها.
فالجملة الكريمة كناية عن قدرته على التصرف والتنقل في جميع أرض مصر ، كما يتصرف ويتنقل الرجل في منزله الخاص.
وقوله : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ ...) بيان لكمال قدرته ونفاذ إرادته ـ سبحانه ـ
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢١٦.