ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن المجاعة التي حدثت في السبع السنين الشداد شملت مصر وما جاورها من البلاد ـ كما سبق أن أشرنا ـ.
كما يؤخذ منها أن مصر كانت محط أنظار المعسرين من مختلف البلاد بفضل حسن تدبير يوسف ـ عليهالسلام ـ وأخذه الأمور بالعدالة والرحمة وسهره على مصالح الناس ، ومراقبته لشئون بيع الطعام ، وعدم الاعتماد على غيره حتى إن إخوته قد دخلوا عليه وحده ، دون غيره من المسئولين في مصر.
وقوله ـ سبحانه ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ...) بيان لما فعله يوسف معهم بعد أن عرفهم دون أن يعرفوه.
وأصل الجهاز ـ بفتح الجيم وكسرها قليل ـ : ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع ، يقال : جهزت المسافر ، أى هيأت له جهازه الذي يحتاج إليه في سفره ، ومنه جهاز العروس وهو ما تزف به إلى زوجها ، وجهاز الميت وهو ما يحتاج إليه في دفنه ...
والمراد : أن يوسف بعد أن دخل عليه إخوته وعرفهم ، أكرم وفادتهم. وعاملهم معاملة طيبة جعلتهم يأنسون إليه ، وهيأ لهم ما هم في حاجة إليه من الطعام وغيره ، ثم استدرجهم بعد ذلك في الكلام حتى عرف منهم على وجه التفصيل أحوالهم.
وذلك لأن قوله لهم (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يستلزم أن حديثا متنوعا نشأ بينه وبينهم ، عرف منه يوسف ، أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا فلو كان هذا الطلب منه لهم بعد معرفته لهم مباشرة ، لشعروا بأنه يعرفهم وهو لا يريد ذلك.
ومن هنا قال المفسرون : إن قوله (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يقتضى كلاما دار بينه وبينهم نشأ عنه هذا الطلب ، ومما قالوه في توضيح هذا الكلام : ما روى من أنهم بعد أن دخلوا عليه قال لهم : من أنتم وما شأنكم؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام ، جئنا نمتار ، ولنا أب شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب ، فقال لهم : كم عددكم قالوا عشرة ، وقد كنا اثنى عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه ، هو باق لديه يتسلى به ، فقال لهم حينئذ ؛ ائتوني بأخ لكم من أبيكم» (١).
ويروى أنه قال لهم ذلك بعد أن طلبوا منه شيئا زائدا عن عددهم ، لأن لهم أخا لم يحضر معهم ، فأعطاهم ما طلبوه ، واشترط عليهم إحضار أخيهم هذا معهم ، ليتأكد من صدقهم» (٢).
__________________
(١) تفسير فتح القدير للشوكانى ج ٢ ص ٣٧.
(٢) راجع تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢٣١.