أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢)
قال الفخر الرازي ـ رحمهالله ـ اعلم أنه لما عم القحط في البلاد ، ووصل أيضا إلى البلدة التي كان يسكنها يعقوب ـ عليهالسلام ـ وصعب الزمان عليهم فقال لبنيه : إن بمصر صالحا يمير الناس ـ أى يعطيهم الطعام وما هم في حاجة إليه في معاشهم ـ فاذهبوا إليه بدراهمكم ، وخذوا منه الطعام ، فخرجوا إليه وهم عشرة وبقي «بنيامين» مع أبيه ، ودخلوا على يوسف ـ عليهالسلام ـ وصارت هذه الواقعة كالسبب في اجتماع يوسف مع إخوته ، وظهور صدق ما أخبره الله ـ تعالى ـ عنه في قوله ليوسف حال ما ألقوه في الجب (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١).
وقد جاءوا إليه جميعا ـ ما عدا «بنيامين» وهو الشقيق الأصغر ليوسف ليحصلوا منه على أكبر كمية من الطعام على حسب عددهم ، وليكون عندهم القدرة على صد العدوان إذا ما تعرض لهم قطاع الطرق الذين يكثرون في أوقات الجدب والجوع.
وعبر عن معرفة يوسف لهم بالجملة الفعلية ، وعن جهلهم له بالجملة الاسمية للإشعار بأن معرفته لهم حصلت بمجرد رؤيته لهم ، أما هم فعدم معرفتهم له كان أمرا ثابتا متمكنا منهم.
قال صاحب الكشاف : «لم يعرفوه لطول العهد ، ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه ، واهتمامهم بشأنه ، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحا في البئر ، حتى لو تخيلوا أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم ، ولأن الملك مما يبدل الزي ، ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف ...» (٢).
__________________
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٨ ص ١٦٥.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٩.