وهي الشواهد على براءته ، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها ، وفتلها منه في الذروة والغارب ، وكان مطواعا لها ، وجملا ذلولا زمامه في يدها ، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات ، وعمل برأيها في سجنه ، لإلحاق الصغار به كما أوعدته ، وذلك لما أيست من طاعته لها ، وطمعت في أن يذلله السجن ويسخره لها (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ جانبا من أحواله بعد أن دخل السجن فقال : (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ...).
والفتيان : تثنية فتى ، وهو من جاوز الحلم ودخل في سن الشباب.
قالوا : وهذان الفتيان كان أحدهما : خبازا للملك وصاحب طعامه وكان الثاني : ساقيا للملك ، وصاحب شرابه.
وقد أدخلهما الملك السجن غضبا عليهما ، لأنهما اتهما بخيانته.
والجملة الكريمة عطف على كلام محذوف يفهم من السياق ، والتقدير بعد أن بدا للعزيز وحاشيته سجن يوسف. نفذا ما بدا لهم فسجنوه ، ودخل معه في السجن فتيان من خدم الملك «قال أحدهما» وهو ساقى الملك ليوسف ـ عليهالسلام ـ :
«إنى أرانى أعصر خمرا» أى : إنى رأيت فيما يرى النائم. أنى أعصر عنبا ليصير خمرا. سماه بما يؤول إليه.
«وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه» أى : وقال الثاني وهو خباز الملك ، إنى رأيت في المنام أنى أحمل فوق رأسى سلالا بها خبز ، وهذا الخبز تأكل الطير منه وهو فوق رأسى.
والضمير المجرور في قوله : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) يعود إلى المرئي في المنام أى : أخبرنا بتفسير ما رأيناه في منامنا ، إذ نراك ونعتقدك من القوم الذين يحسنون تأويل الرؤى ، كما أننا نتوسم فيك الخير والصلاح ، لإحسانك إلى غيرك ، من السجناء الذين أنت واحد منهم.
وقبل أن يبدأ يوسف ـ عليهالسلام ـ في تأويل رؤياهما ، أخذ يمهد لذلك بأن يعرفهما
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣١٩. وقوله (وفتلها منه في الذروة والغارب) مثل يضرب لمن يتلطف في خداع غيره ، حتى يتمكن من إخضاعه له ، ومن انقياده لأمره والذروة ـ بالكسر والضم ـ أعلى الشيء والمراد به هنا أعلى سنام البعير ، والغارب المكان الذي العنق والسنام منه ، والمراد أن صاحب الجمل يخفى الخطام ويأخذ في التحايل على الجمل حتى يتمكن منه فيضع فيه الخطام ويقوده به.