بأصنامهم التي زعموا أن بعضها قد أصابه بسوء ، ويوثق هذه البراءة بإشهاد الله ـ تعالى ـ وإشهادهم.
وذلك كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به : أشهد الله وأشهدك على أنى فعلت بك كذا وكذا ، وقلت في حقك كذا وكذا ... فافعل أنت ما بدا لك!!
ثم ينتقل من براءته من شركهم ، إلى تحديهم بثقة واطمئنان فيقول : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ).
أى : لقد أعلنت أمامكم بكل قوة ووضوح أنى برىء من شرككم ، وها أنذا في مواجهتكم ، فانضموا إلى آلهتكم ، وحاربونى بما شئتم من ألوان المحاربة والأذى بدون تريث أو إمهال ، فإنى لن أكف عن الجهر بدعوتي ، ولن أتراجع عن احتقار الباطل الذي أنتم عليه.
وهذا ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ من أعظم الآيات ، أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمة عطاشا إلى إراقة دمه ، يرمونه عن قوس واحدة وذلك لثقته بربه ، وأنه يعصمه منهم ، فلا تنشب فيه مخالبهم .. (١).
ثم ينتقل بعد ذلك إلى بيان السبب الذي دعاه إلى البراءة من شركهم ، وإلى عدم المبالاة بهم فقال ـ كما حكى القرآن عنه ـ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ...).
أى : إنى فوضت أمرى إلى الله الذي هو ربي وربكم ، ومالك أمرى وأمركم ، والذي لا يقع في هذا الكون شيء الا بإرادته ومشيئته.
وفي قوله : (رَبِّي وَرَبِّكُمْ) مواجهة لهم بالحقيقة التي ينكرونها ، لإفهامهم أن إنكارهم لا قيمة له ، وأنه إنكار عن جحود وعناد .. فهو ـ سبحانه ـ ربهم سواء أقبلوا ذلك أم رفضوه. وقوله (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) تصوير بديع لشمول قدرته ـ سبحانه ـ والأخذ : هو التناول للشيء عن طريق الغلبة والقهر.
والناصية : منبت الشعر في مقدم الرأس ، ويطلق على الشعر النابت نفسه.
قال الإمام الرازي : واعلم أن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذلة والخضوع قالوا : ما ناصية فلان إلا بيد فلان. أى أنه مطيع له ، لأن كل من أخذت بناصيته فقد قهرته. وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره فخوطبوا في القرآن بما يعرفون ... (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٧٦.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ١٣.