وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط ـ أى يتلوى ويتمرغ ـ من شدة العطش ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا. فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا ، حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعى الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات ، ولذلك سعى الناس بينهما سبعا.
فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه! تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا صوتا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور ، فشربت وأرضعت ولدها ، وقال لها الملك : لا تخافي الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله ـ تعالى ـ يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله ـ تعالى ـ لن يضيع أهله.
ثم إنه مرت بهما رفقة من جرهم ، فرأوا طائرا عائفا ـ أى يتردد على الماء ولا يمضى ـ فقالوا : لا طير إلا على الماء ، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء ، فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده ، فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ، ففعلت ، فلما أدرك إسماعيل ـ عليهالسلام ـ زوجوه امرأة منهم» (١).
ثم حكى ـ سبحانه ـ دعاء آخر من تلك الدعوات الخاشعة التي تضرع بها إبراهيم إلى ربه فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ ، وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).
أى : يا ربنا إنك وحدك العليم بما تخفيه نفوسنا من أسرار ؛ وما تعلنه وتظهره من أقوال ، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليك سواء ، فأنت يا إلهى لا يخفى عليك شيء من الأشياء ، سواء أكان هذا الشيء في الأرض أم في السماء أم في غيرهما.
وإنما ذكر السماء والأرض لأنهما المشاهدتان للناس ، وإلا فعلمه ـ سبحانه ـ محيط بكل ما في هذا الكون.
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما قاله إبراهيم ـ عليهالسلام ـ في مقام شكره لله على نعمه فقال ـ تعالى ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ).
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٣ ص ٢١٢ وراجع صحيح البخاري تجد فيه حديثا طويلا في هذا الموضوع.