والنهى عن الحزن ـ وهو أمر نفسي لا اختيار للإنسان فيه ـ المراد به هنا النهى عن لوازمه ، كالإكثار من محاولة تجديد شأن المصائب ، وتعظيم أمرها ، وبذلك تتجدد الآلام ، ويصعب نسيانها.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية له صلىاللهعليهوسلم وتأنيس لقلبه ، وإرشاد له إلى ما سيقع له من أعدائه من شرور ، حتى لا يتأثر بها عند وقوعها.
وقوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل للنهى على طريقة الاستئناف ، فكأنه صلىاللهعليهوسلم قد قال : وما لي لا أحزن وهم قد كذبوا دعوتي؟ فكان الجواب : إن الغلبة كلها ، والقوة كلها لله وحده لا لغيره ، فهو ـ سبحانه ـ القدير على أن يغلبهم ويقهرهم ويعصمك منهم ، وهو (السَّمِيعُ) ، لأقوالهم الباطلة ، (الْعَلِيمُ) بأفعالهم القبيحة ، وسيعاقبهم على ذلك يوم القيامة عقابا أليما.
ولا تعارض بين قوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) وبين قوله في آية أخرى (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) ، لأن كل عزة لغيره ـ سبحانه ـ فهي مستمدة من عزته ، وكل قوة من تأييده وعونه ، والرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون ، إنما صاروا أعزاء بفضل ركونهم إلى عزة الله ـ تعالى ـ وإلى الاعتماد عليه ، وقد أظهرها ـ سبحانه ـ على أيديهم تكريما لهم.
ولذا قال القرطبي (٢) ـ رحمهالله ـ قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أى : القوة الكاملة ، والغلبة الشاملة ، والقدرة التامة لله وحده ، فهو ناصرك ومعينك ومانعك. و (جَمِيعاً) نصب على الحال ، ولا يعارض هذا قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) فإن كل عزة بالله فهي كلها لله ، قال ـ سبحانه ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٣).
ثم قال ـ تعالى ـ (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أى : ألا إن لله وحده ملك جميع من في السموات ومن في الأرض من إنس وجن وملائكة.
وجاء التعبير القرآنى هنا بلفظ (مَنْ) الشائع في العقلاء ، للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم ، لأنهم إذا كانوا مع شرفهم وعلو منزلتهم مملوكين لله ـ تعالى ـ كان غيرهم ممن لا يعقل أولى بذلك.
قال صاحب الكشاف قوله : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) يعنى العقلاء
__________________
(١) سورة المنافقون آية ٨.
(٢) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٥٩.
(٣) سورة الصافات آية ١٨٠.