يمينه. ولقد كان حبه للجهاد والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيما بحيث ما كان له حديث إلا فيه ولا نظر إلا في آلته ولا كان له اهتمام إلا برجاله ولا ميل إلا إلى من يذكره ويحثه عليه ، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر بلاده ، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب فيها الرياح يمنة ويسرة ، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريحية على مرج عكا فلو لم يكن في البرج لقتلته ، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماما.
ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها وقد قال : لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مجانيق ، ورتب لكل منجنيق قوما يتولون نصبه ، وكنا طوال الليل في خدمته في ألذ مفاكهة وأرغد عيش ، والرسل تتواصل تخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا ومن المنجنيق الفلاني كذا ، حتى أتى الصباح وقد فرغ منها ولم يبق إلا تركيب جنازيرها عليها ، وكانت من أطول الليالي وأشدها بردا ومطرا.
وكان حسن العشرة لطيف الأخلاق طيب الفكاهة ، حافظا لأنساب العرب ووقائعهم ، عارفا بسيرهم وأحوالهم ، حافظا لأنساب خيلهم ، عالما بعجائب الدنيا ونوادرها ، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره.
وكان طاهر المجلس ، لا يذكر بين يديه أحد إلا بخير ، وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير ، وطاهر اللسان فما رأيته ولع بشتم قط. وكان حسن العهد والوفاء فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفيه وجبر قلبه وأعطاه وجبر مصابه ، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إليه ، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته وسلمه إلى من يعتني بتربيته ويكلفها.
فهذه نبذ من محاسن أخلاقه ومكارم شيمه اقتصرت عليها خوف الإطالة اه.
أقول : وقد اختصرت كثيرا مما ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية من أحواله ، ولو ذكرت الجميع لطال الكلام جدا ، ومن أحب الاستزادة من أحوال هذا الرجل العظيم فعليه بهذا الكتاب وبكتاب الروضتين ، وقد ذكر ابن خلكان في آخر ترجمته ما بناه في مصر والقدس والشام من المدارس والخانقاهات وغير ذلك ، ولم أر فيما رأيته أن له شيئا من الآثار في حلب ، ويظهر أن السبب في ذلك أنه لم يقم هنا مدة يتسنى له فيها