وقوة نفس وعزمة ، وثبت في مواضع لم يثبت فيها غيره على ما تضمنه تواريخ العماد الأصفهاني وبهاء الدين بن شداد وغيرهما ، وشهرة ذلك تغني عن الإطالة فيه. ولو لم يكن إلا وقعة حطين لكفته فإنه وقف هو وتقي الدين صاحب حماة وانكسر العسكر بأسره ، ثم لما سمعوا بوقوفهما تراجعوا حتى كانت النصرة للمسلمين وفتح الله سبحانه عليهم. ثم لما كان السلطان صلاح الدين منازلا عكا بعد استيلاء الفرنج عليها وردت عليه ملوك الشرق تنجده وتخدمه ، وكان في جملتهم زين الدين يوسف أخو مظفر الدين وهو يومئذ صاحب إربل ، فأقام قليلا ثم مرض وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة بالناصرة ، فلما توفي التمس مظفر الدين من السلطان أن ينزل عن حران والرها وسميساط ويعوضه إربل ، فأجابه إلى ذلك وضم إليه شهرزور فتوجه إليها في هذه السنة. هذه خلاصة أمره.
سيرته وآثاره : (اقرأ وتأمل)
قال : وأما سيرته فلقد كان له في فعل الخيرات غرائب لم يسمع أن أحدا فعل في ذلك ما فعله. لم يكن في الدنيا شيء أحب إليه من الصدقة ، كان له كل يوم قناطير مقنطرة من الخبز يفرقها على المحاويج في عدة مواضع من البلد يجتمع في كل يوم خلق كثير ويفرق عليهم في أول النهار. وكان إذا نزل من الركوب يكون قد اجتمع عند الدار جمع كثير فيدخلهم إليه ويدفع لكل واحد كسوة على قدر الفصل من الشتاء والصيف أو غير ذلك ، ومع الكسوة شيء من الذهب من الدينار والاثنين والثلاثة وأقل وأكثر. وكان قد بنى أربع خانقاهات للزمنى والعميان وملأها من هذين الصنفين وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم ، وكان يأتيهم بنفسه في كل عصرية اثنين وخميس ويدخل عليهم ويدخل إلى كل واحد في بيته ويتفقده بشيء من النفقة ويسأله عن حاله ، وينتقل إلى الآخر وهكذا حتى يدور على جميعهم وهو يباسطهم ويمزح معهم ويجبر قلوبهم. وبنى دارا للنساء الأرامل ودارا للصغار الأيتام ودارا للملاقيط ورتب بها جماعة من المراضع وكل مولود يلتقط يحمل إليهم فيرضعنه ، وأجرى على أهل كل دار ما يحتاجون إليه في كل يوم وكان يدخل إليها في كل وقت ويتفقد أحوالهن ويعطيهن النفقات زيادة على المقرر لهن ، وكان يدخل إلى البيمارستان ويقف على مريض مريض ويسأله عن مبيته وكيفية حاله وما يشتهيه. وكان له دار مضيف يدخل إليها كل قادم على البلد من فقيه أو فقير أو غيرهما ، وعلى الجملة فما كان يمنع منها كل من قصد الدخول إليها ولهم الراتب في الدار في الغداء والعشاء ، وإذا عزم الإنسان على السفر أعطوه نفقة على ما يليق بمثله.