وأعمل الحيلة على جوسلين وعلم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع ، فأحضر نور الدين جماعة من التركمان وبذل لهم الرغائب من الإقطاع والأموال إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلا وإما أسرا ، فاتفق أن جوسلين خرج في عسكره وأغار على طائفة من التركمان وسبى ونهب فاستحسن من السبي امرأة منهم خلا معها تحت شجرة فعاجله التركمان ، فركب فرسه ليقاتلهم فأخذوه أسيرا ، فصانعهم على مال بذله لهم فرغبوا فيه وأجابوه إلى ذلك وأخفوا أمره عن نور الدين ، فأرسل جوسلين في إحضار المال فأتى بعض التركمان إلى نائب نور الدين بحلب (هو أبو بكر بن الداية كما في الكامل) فأعلمه الحال فسير معه عسكرا أخذوا جوسلين من التركمان قهرا ، وكان نور الدين حينئذ بحمص ، وكان أسره من أعظم الفتوح على المسلمين ، فإنه كان شيطانا عاتيا من شياطين الفرنج شديد العداوة للمسلمين ، وكان هو يتقدم على الفرنج في حروبهم لما يعلمون من شجاعته وجودة رأيه وشدة عداوته للملة الإسلامية وقسوة قلبه على أهلها ، وأصيبت النصرانية كافة بأسره وعظمت المصيبة عليهم بفقده وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها وسهل أمرهم على المسلمين بعده ، وكان كثير الغدر والمكر لا يقف على يمين ولا يفي بعهد ، طالما صالحه نور الدين وهادنه ، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر فلقيه غدره وحاق به مكره (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) فلما أسر تيسر فتح كثير من بلادهم وقلاعهم ، فمنها عين تاب وعزاز وقورس والراوندان وحصن البارة وتل خالد وكفرلاثا وكفرسوت وحصن بسرفوث بجبل بني عليم ودلوك ومرعش ونهر الجوز وبرج الرصاص.
قال : وكان نور الدين رحمهالله إذا فتح حصنا لا يرحل عنه حتى يملأه رجالا وذخائر تكفيه عشر سنين خوفا من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين فتكون الحصون مستعدة غير محتاجة إلى شيء.
وقال الشعراء في هذه الحادثة فأكثروا ، منهم القيسراني قال يمدح نور الدين بعد صدوره عن دمشق واستقرار أمرها ويذكر قتل البرنس وأسر جوسلين وأخذ بلاده :
دعا ما ادعى من غره النهي والأمر |
|
فما الملك إلا ما حباك به الأمر |
ومن ثنت الدنيا إليه عنانها |
|
تصرف فيما شاء عن إذنه الدهر |
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا |
|
فلن تدرك الشعرى مداه ولا الشعر |