فصل
قال ابن العربيّ : قال أبو حنيفة : إذا قال الرّجل إذا شرب عبدي من الفرات فهو حرّ ، فلا يعتق إلّا أن يكرع فيه ، والكرع : أن يشرب الرّجل بفيه من النّهر ، فإن شرب بيده ، أو اغترف منه بإناء ، لم يعتق ، لأنّ الله ـ تعالى ـ فرّق بين الكرع في النّهر ، وبين الشّرب باليد. قال : وهذا فاسد لأنّ شرب الماء يطلق على كلّ هيئة وصفة في لسان العرب من غرف باليد ، أو كرع بالفم انطلاقا واحدا.
قال القرطبي (١) : وقول أبي حنيفة أصحّ ؛ لأنّ أهل اللّغة فرّقوا بينهما ، كما فرّق الكتاب والسّنّة.
قال الجوهريّ وغيره : كرع من الماء كروعا : إذا تناوله بفيه من موضعه ، من غير أن يشرب بكفيه ، أو بإناء ، وفيه لغة أخرى «كرع» بكسر الرّاء كرعا.
وأمّا السّنّة ، فما روي عن ابن عمر قال : مررنا على بركة ، فجعلنا نكرع فيها فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثمّ اشربوا فيها ، فإنّها ليس إناء بأطيب من اليد» (٢) وقال عليه الصلاة والسلام : «من شرب بيده وهو يقدر على إناء يريد به التّواضع كتب الله بعدد أصابعه حسنات وهو إناء عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إذ اطّرح القدح فقال أفّ هذا مع الدّنيا» (٣) أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر.
قوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً) هذه القراءة المشهورة ، وقرأ (٤) عبد الله ، وأبيّ والأعمش «إلّا قليل» وتأويله أنّ هذا الكلام وإن كان موجبا لفظا فهو منفيّ معنى ، فإنه في قوّة : لم يطيعوه إلا قليل منهم ، فلذلك جعله تابعا لما قبله في الإعراب. قال الزّمخشريّ : وهذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللّفظ جانبا ، وهو باب جليل من علم العربية ، فلمّا كان معنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ) في معن ى «فلم يطيعوه» حمل عليه ، ونحوه قول الفرزدق : «لم يدع من المال إلّا مسحتا أو مجلّف» يشير إلى قوله : [الطويل]
١١٦٧ ـ وعضّ زمان يا بن مروان لم يدع |
|
من المال إلّا مسحتا أو مجلّف (٥) |
__________________
(١) ينظر : المصدر السابق.
(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١١٣٥) رقم (٣٤٣٣) وابن أبي شيبة (٨ / ٤١).
(٣) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٣٤) رقم (٣٤٣١) عن عبد الله بن عمر مرفوعا.
قال الحافظ البوصيري في «زوائد ابن ماجه» (٣ / ١١٣) هذا إسناد ضعيف لتدليس بقية بن الوليد.
(٤) انظر : البحر المحيط ٢ / ٢٧٥ ، والدر المصون ١ / ٦٠٥ ، والتخريجات النحوية ١٦٢.
(٥) البيت للفرزدق ينظر ديوانه ٢ / ٢٦ ، وخزانة الأدب ١ / ٢٣٧ ، ٨ / ٥٤٣ ، والخصائص ١ / ٩٩ ، ولسان العرب (سحت) ، (جلف) ، (ودع) ، وجمهرة أشعار العرب ص ٨٨٠ ، وجمهرة اللغة ص ٣٨٦ ، ١٢٥٩ ، والإنصاف ١ / ١٨٨ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٧٩ ، وشرح المفصل ١ / ٢٣١ ، ١٠ / ١٠٣ ، والمحتسب ١ / ١٨٠ ، ٢ / ٣٦٥. والدر المصون ١ / ٦٠٦.