قال ابن الخطيب (١) : الهجرة تحصل تارة بالانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وأخرى تحصل بالانتقال عن أعمال الكفّار إلى أعمال المسلمين ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وقال المحقّقون (٢) : الهجرة في سبيل الله عبارة عن الهجرة عن (٣) ترك منهيّاته وفعل مأموراته ، والآية عامّة في الكلّ ، وقيّد الهجرة بكونها في سبيل الله ؛ لأنه ربّما كانت الهجرة لغرض من أغراض الدّنيا فلا تكون معتبرة.
قال القرطبي (٤) : والهجرة أنواع : منها الهجرة إلى المدينة ؛ لنصرة النّبي صلىاللهعليهوسلم في الغزوات ، وكانت هذه واجبة أوّل الإسلام ، حتى قال : «لا هجرة بعد الفتح» وكذلك هجرة المنافقين مع النبي صلىاللهعليهوسلم [وهجرة من أسلم في دار الحرب فإنها واجبة ، وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه](٥) كما قال ـ عليهالسلام ـ : «والمهاجر من هجر ما حرّم الله عليه» وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن ، وهجرة أهل المعاصي ؛ ليرجعوا عمّا هم عليه تأديبا لهم ، فلا يكلّمون ولا يخاطبون ولا يخالطون حتى يتوبوا ؛ كما فعل النّبيّ صلىاللهعليهوسلم مع كعب وصاحبيه.
قوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) أي : فإن أعرضوا عن التّوحيد والهجرة «فخذوهم» إذا قدرتم عليهم أسارى ، ومنه يقال للأسير : أخيذ ، (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في الحلّ والحرم (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ) في هذه الحال «وليا» يتولى شيئا من مهماتكم (وَلا نَصِيراً) لينصركم على أعدائكم ، ثم استثنى منهم وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).
قوله : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ :) في هذه الاستثناء قولان :
أظهرهما : أنه استثناء متّصل ، والمستثنى منه قوله : (فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ) في الأخذ والقتل لا في الموالاة ؛ لأن موالاة الكفّار والمنافقين لا يجوز بحال.
والمستثنون على هذا قوم كفار ، ومعنى الوصلة هنا الوصلة بالمعاهدة والمهادنة. وقال أبو عبيد : «هو اتّصال النّسب» ، وغلّطه النّحّاس بأن النّسب كان ثابتا بين النّبيّ صلىاللهعليهوسلم والصّحابة ، وبين المشركين ، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم.
وقال ابن عبّاس : يريد : ويلجئون إلى قوم (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي : عهد ، وهم الأسلميّون ، وذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم وادع هلال بن عويمر (٦) الأسلميّ عند خروجه إلى مكّة ، على ألّا يعينه ولا يعين عليه ، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه ، فلهم من الجواز مثل ما لهلال.
وقال الضّحّاك عن ابن عبّاس : أراد بالقوم الّذين بينكم وبينهم ميثاق : بني بكر بن
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٠ / ١٧٦.
(٢) ينظر : السابق.
(٣) في ب : من.
(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٥ / ١٩٨.
(٥) سقط في أ.
(٦) في ب : عمير.