والمنحرفين بالمسؤولية ، من خلال انحرافهم عنها في ما ادّعوه من إيمان ، وفي ما أثاروه من حركة ، أو قاموا به من مشاريع ، لأنهم لم يأخذوا بالوسائل المشروعة للمعرفة ، بل ارتكزوا على ما لا قيمة له في حساب المسؤولية.
(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تتبع في قولك أو عقيدتك أو عملك ما لم ترتكز فيه على أساس من علم يتمثل بالحجّة التي تكشف الحقيقة ، وتجلو الغموض ، وتثبت الفكر ، وتؤدي إلى الإيمان المستقر الثابت في عمق الفكر والشعور. وهذا ما يتمثّل في اليقين القاطع الذي لا مجال معه لأي احتمال مضادّ ، أو في الاطمئنان النفسي أو الفكري للفكرة بحيث لا يمثل الاحتمال المضاد شيئا مهمّا أمام المستوى الكبير من الرجحان في جانب الإيجاب ، أو في الوسائل العقلانية أو الشرعية التي اعتمدها العقلاء أو صاحب الشريعة كأساس للمعرفة ، بحيث تمثل الحجة المقبولة أمام الله ... ولعلّ هذا هو المراد من كلمة «العلم» ـ في ما جاء في القرآن من هذه الكلمة ـ فقد لا يكون المقصود بها القطع الذي لا يحتمل الخلاف ، بل الوعي للفكرة بالمستوى الذي لا قيمة فيه لهذا الاحتمال ، إمّا لضعفه بحيث لا يعتنى به في حركة الوجدان ، وإمّا لقيام الدليل في بناء العقلاء وفي تعليمات الشرع ، على عدم الالتفات إليه. ويقابله الشك والظن اللّذان أطلقا على ما لا حجة فيه من ناحية ذاتية أو جعليّة. وإذا لم يكن ما قلنا مضمونا وضعيا للكلمة ، فلا أقل من أن يكون اللفظ منصرفا إليه ، لكثرة استعماله فيه.
وعلى ضوء ذلك ، أنكر القرآن العلم على الملحدين والمشركين والمنكرين للنبوة والرافضين للمعاد ، لأنهم لم يرتكزوا في أفكارهم ورفضهم على أساس من الحجة التي تثبت أمام النقد ، وتكشف الحقيقة ، وتواجه الفكرة المؤمنة بالفكر العلمي المنفتح ، بل اعتمدوا في ذلك على بعض الوسائل التي لا تمثل شيئا في حساب القيمة العلمية ، كالاستناد إلى عقائد الآباء الذين لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، والارتكاز على عنصر الاستبعاد لبعض الأفكار التي