الإتيان بمثله ، وذلك لما يحتويه من دقائق وأسرار ، وما يتمثل فيه من بلاغة وفنّ ... ولا يقتصر الأمر على الإنس ، بل يتعداه إلى الجن الذين كان العرب يعتقدون أنهم يملكون قدرة خارقة فوق قدرة الإنسان ، فهم يقفون عاجزين أمام هذا التحدي ، فلا يستطيعون لمواجهته سبيلا. واستمر القرآن طيلة هذه القرون ، ولم يأت أحد بمثله يقابله في هذا الجو المتنوّع التأثير على عقول الناس وأرواحهم وشعورهم ... الذين يحسّون فيه بمثل السحر من خلال ما يملك من القوّة المهيمنة على كل كيانهم الفكري والروحي والشعوري.
وذلك هو الدليل على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه ليس كلام البشر ، نبيا كان أو غيره ، وأنه لا يمكن لأحد أن يزيد فيه شيئا مما لم يوح به الله ، لأنه لا يتناسب مع أسلوبه المعجز ، بحيث يبرز الفرق بشكل واضح بين ما هو القرآن ، وما هو التحريف فيه.
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) بكل ما يملكون من طاقات الفكر العلمية والأدبية (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) في أسلوبه المعجز ، ومضمونه العميق الواسع المتنوّع ، وإيحاءاته الروحية والعملية ... (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وعضدا وناصرا ، لأن المسألة غير مشروطة بتكامل الطاقات في سبيل تكامل النص في الإبداع الفني ، بل مرتبطة بالسر الخفي الكامن في ذات النص ، مما يعيش الإنسان الإحساس به دون أن يستطيع التعبير عنه ، أو تقليده ، أو محاولة تقديم نموذج مماثل له.
وقد أشرنا إلى رأينا في مسألة «الإعجاز القرآني» أثناء تفسيرنا للآية ٢٣ في سورة البقرة ، فليراجع هناك.
* * *