ومنهم من يرى ـ أيضا ـ أن الضمائر تعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح ـ عليهالسلام ـ إلا أن المراد بقوله (مِنْ قَبْلُ) : أى : من قبل ابتداء دعوة الرسل لهؤلاء الأقوام.
وعليه يكون المعنى : ثم بعثنا من بعد نوح ـ عليهالسلام ـ رسلا كثيرين إلى أقوامهم ، فجاءوهم بالأدلة الواضحة الدالة على صدقهم ، إلا أن هؤلاء الأقوام قابلوا رسلهم بالتكذيب من أول يوم ، واستمروا على ذلك حتى آخر أحوالهم معهم ، فكان تكذيبهم لهم في آخر أحوالهم معهم ، يشبه تكذيبهم لهم من قبل. أى : في أول مجيئهم إليهم.
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى : الإمام ابن كثير فقد قال : «قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أى : فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم ، بسبب تكذيبهم إياهم أول من أرسلوا إليهم ، كما قال ـ تعالى ـ (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١).
ومنهم من يرى أن الضمير في قوله «كانوا ويؤمنوا» يعود على أقوام الرسل الذين جاءوا من بعد نوح ـ عليهالسلام ـ وأن الضمير في قوله «كذبوا» يعود إلى قوم نوح ، وعلى هذا الرأى يكون المعنى :
ثم بعثنا من بعد نوح ـ عليهالسلام ـ رسلا إلى أقوامهم. فجاءوهم بالآيات البينات الدالة على صدقهم ، ولكن هؤلاء الأقوام استمروا في كفرهم وعنادهم ، وأبوا أن يؤمنوا بوحدانية الله التي كذب بها قوم نوح من قبل.
ومن المفسرين الذين قالوا بهذا الرأى الإمام ابن جرير فقد قال «قوله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) يقول : «فما كانوا ليصدقوا بما جاءتهم به رسلهم وبما كذب به قوم نوح ومن قبلهم من الأمم الخالية ..» (٢).
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة ، تدل على أن هؤلاء الأقوام عموا وصموا عن الحق ، واستمروا على ذلك دون أن تحولهم الآيات البينات التي جاءهم بها الرسل عن عنادهم وضلالهم.
وقوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) بيان لسنة الله ـ تعالى ـ في خلقه التي لا تتخلف ولا تتبدل. والطبع : الختم والاستيثاق بحيث لا يخرج من الشيء ما دخل فيه ، ولا يدخل فيه ما خرج منه.
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ١ طبعة دار الشعب ص ٢٣٠ المجلد الرابع.
(٢) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٠٠ طبعة دار المعرفة ـ بيروت.