لجحودهم لآياتنا ، وتكذيبهم لرسلنا «إلى أمة معدودة» أى : إلى وقت معين من الزمان على حساب إرادتنا وحكمتنا : «ليقولن» على سبيل التهكم والاستهزاء ، واستعجال العذاب ، «ما يحبسه» أى : ما الذي جعل هذا العذاب الذي حذرنا منه محمد صلىاللهعليهوسلم محبوسا عنا ، وغير نازل بنا ...
ولا شك أن قولهم هذا ، يدل على بلوغهم أقصى درجات الجهالة والطغيان ، حيث قابلوا رحمة الله ـ تعالى ـ المتمثلة هنا في تأخير العذاب عنهم ، بالاستهزاء والاستعجال ، ولذا رد الله ـ تعالى ـ عليهم بقوله : (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ، وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أى : ألا إن ذلك العذاب الذي استعجلوه واستخفوا به ، يوم ينزل بهم ، لن يصرفه عنهم صارف ، ولن يدفعه عنهم دافع ، بل سيحيط بهم من كل جانب ، بسبب استهزائهم به وإعراضهم عمن حذرهم منه.
واللام في قوله (وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ) موطئة للقسم ، وجواب القسم قوله «ليقولن ما يحبسه».
والأقرب إلى سياق الآية أن يكون المراد بالعذاب هنا : عذاب الاستئصال الدنيوي ، إذ هو الذي استعجلوا نزوله ، أما عذاب الآخرة فقد كانوا منكرين له أصلا ، كما حكى عنهم ـ سبحانه ـ في الآية السابقة في قوله : (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).
قال الآلوسى : والظاهر بأن المراد العذاب الشامل للكفرة ، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة قال : لما نزل (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا ، فتناهى القوم قليلا ، ثم عادوا إلى أعمالهم السوء : فأنزل الله ـ تعالى ـ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) فقال أناس من أهل الضلالة : هذا أمر الله ـ تعالى ـ قد أتى ، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم مكر السوء ، فأنزل الله هذه الآية» (١).
وفي قوله ـ سبحانه ـ (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) إيماء إلى أن تأخير العذاب عنهم ليس لمدة طويلة ، لأن ما يحصره العد : جرت العادة في أساليب العرب أن يكون قليلا ، ويؤيد ذلك أنه بعد فترة قليلة من الزمان نزل بهم في غزوة بدر القتل الذي أهلك صناديدهم ، والأسر الذي أذل كبرياءهم.
وافتتحت جملة (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ) بأداة الاستفتاح (أَلا) للاهتمام
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤.