الإمام «السكاكي» فقد أطال وأطنب في كتابه «المفتاح» في الحديث عنها.
فقد قال ـ عليه الرحمة ـ في بحث البلاغة والفصاحة :
وإذ قد وقفت على البلاغة ، وعثرت على الفصاحة ، فأذكر لك على سبيل الأنموذج ، آية أكشف لك فيها من وجوههما ما عسى أن يكون مستورا عنك ، وهذه الآية هي قوله ـ تعالى ـ (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ، وَغِيضَ الْماءُ ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ ...).
والنظر في هذه الآية من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهة الفصاحة المعنوية ، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان .. فتقول : إنه ـ عز سلطانه ـ لما أراد أن يبين معنى هو : أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض لما أراد ذلك : بنى الكلام على التشبيه ، بأن شبه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه أن يعصى أمره .. وكأنهما عقلاء مميزون فقال : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ، وَيا سَماءُ أَقْلِعِي ...)
ثم قال : (ماءَكِ) بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز ، تشبيها لاتصال الماء بالأرض ، باتصال الملك بالمالك.
ثم اختار لاحتباس المطر لفظ الإقلاع الذي هو ترك الفاعل للفعل.
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني ... فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها ، لكونها أكثر في الاستعمال ... واختير لفظ «ابلعي» على «ابتلعى» لكونه أخصر. ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع منه ، حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى. نظم للمعاني لطيف ، وتأدية لها ملخصة مبينة ، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ، ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد ، بل إذا جربت نفسك عند استماعها ، وجدت ألفاظها تسابق معانيها ، ومعانيها تسابق ألفاظها ، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك ، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية : فألفاظها على ما ترى عربية ، مستعملة جارية على قوانين اللغة ، سليمة من التنافر ، بعيدة عن البشاعة.
ولا تظن الآية مقصورة على ما ذكرت ، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت (١).
__________________
(١) راجع تفسير القاسمى ج ٩ ص ٣٤٤٦ وتفسير المنار ج ١٢ ص ٩٠.