والمعنى : قل لهم ـ أيضا ـ أيها الرسول الكريم ـ لو شاء الله ـ تعالى ـ أن لا أتلوا عليكم هذا القرآن لفعل ، ولو شاء أن يجعلكم لا تدرون منه شيئا ، لفعل ـ أيضا ـ ، فإن مرد الأمور كلها إليه ، ولكنه ـ سبحانه ـ شاء وأراد أن أتلوه عليكم ، وأن يعلمكم به بواسطتى ، فأنا رسول مبلغ ما أمرنى الله بتبليغه.
قال القرطبي : «وقرأ ابن كثير : ولأدراكم به بغير ألف بين للام والهمزة. والمعنى : لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل» (١).
وجاءت الآية الكريمة بدون عطف على ما قبلها ، إظهارا لكمال شأن المأمور به. وإيذانا باستقلاله ، فإن ما سبق كان للرد على اقتراحهم تبديل القرآن. وهذه الآية للرد على اقتراحهم الإتيان بغيره.
ومفعول المشيئة محذوف. لأن جزاء الشرط ينبئ عنه ، أى : لو شاء الله عدم تلاوته ما تلوته عليكم :
وقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) تعليل للملازمة المستلزمة لكون عدم التلاوة وعدم العلم منوط بمشيئة الله ـ تعالى ـ وقوله : (عُمُراً) منصوب على الظرفية وهو كناية عن المدة الطويلة. أى : فأنتم تعلمون أنى قد مكثت فيما بينكم ، مدة طويلة من الزمان ، قبل أن أبلغكم هذا القرآن ، حفظتم خلالها أحوالى ، وأحطتم خبرا بأقوالى وأفعالى ، وعرفتم أنى لم أقرأ عليكم من آية أو سورة مما يشهد أن هذا القرآن إنما هو من عند الله ـ تعالى ـ.
والهمزة في قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ) داخلة على محذوف. وهي للاستفهام التوبيخي. والتقدير : أجهلتم هذا الأمر الجلى الواضح ، فصرتم لا تعقلون أن أمثال هذه الاقتراحات المتعنتة التي اقترحتموها لا يملك تنفيذها أحد إلا الله ـ تعالى ـ.
قال الإمام الرازي ما ملخصه : «أمر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يرد عليهم بما جاء في هذه الآية وتقريره : أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من أول عمره إلى ذلك الوقت ، وكانوا عالمين بأحواله. وأنه ما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ ولا تعلم من أحد ، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه ، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام ، ولطائف علم الأخلاق ، وأسرار قصص الأولين ، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء ، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٣٠.