فكأن الله ـ تعالى ـ يقول لأولئك المعاندين والمعارضين في أن القرآن من عند الله. هاكم القرآن ترونه مؤلفا من كلام هو من جنس ما تؤلفون منه كلامكم ، ومنظوما من حروف هي من جنس الحروف الهجائية التي تنظمون منها حروفكم ، فإن كنتم في شك من كونه منزلا من عند الله فهاتوا مثله ، وادعوا من شئتم من الخلق لكي يعاونكم في ذلك ، فإن لم تستطيعوا فهاتوا عشر سور من مثله ، فإن عجزتم فهاتوا سورة واحدة من مثله.
قال ـ تعالى ـ : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ، وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).
وقوله (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) تنويه بشأن القرآن الكريم ، وبيان للغرض السامي الذي أنزله الله ـ تعالى ـ من أجله.
والظلمات : جمع ظلمة ، والمراد بها : الكفر والضلال ، والمراد بالنور : الإيمان والهداية.
والباء في (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) للسببية ، والجار والمجرور متعلق بقوله (لِتُخْرِجَ).
والصراط : الجادة والطريق ، من سرط الشيء إذا ابتلعه ، وسمى الطريق بذلك ، لأنه يبتلع المارين فيه ، وأبدلت سينه صادا على لغة قريش.
والمعنى : هذا كتاب جليل الشأن ، عظيم القدر ، أنزلناه إليك يا محمد ، لكي تخرج الناس من ظلمات الكفر والجهالة والضلال ، إلى نور الإيمان والعلم والهداية ، وهذا الإخراج إنما هو بإذن ربهم ومشيئته وإرادته وأمره.
وقوله (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) بدل من قوله (إِلَى النُّورِ).
أى لتخرج الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى طريق الله (الْعَزِيزِ) أى : الذي يغلب ولا يغلب (الْحَمِيدِ) أى : المحمود بكل لسان.
وأسند ـ سبحانه ـ الإخراج إلى النبي صلىاللهعليهوسلم باعتباره المبلغ لهذا الكتاب المشتمل على الهداية التي تنقل الناس من الكفر إلى الإيمان ، ومن الجهالة إلى الهداية وشبه الكفر بالظلمات ـ كما يقول الإمام الرازي ـ ، لأنه نهاية ما يتحير الرجل فيه عن طريق الهداية ، وشبه الإيمان بالنور ، لأنه نهاية ما ينجلي به طريق هدايته» (٢).
وفي جمع «الظلمات» وإفراد «النور» إشارة إلى أن للكفر طرقا كثيرة ، وأما الإيمان
__________________
(١) سورة البقرة الآية ٢٣.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٩ ص ٧٢.