قال الجمل : «وفي هذا الاستثناء وجهان : أظهرهما : أنه استثناء منقطع ، لأن دعاءه ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة ، والثاني : أنه متصل لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر ، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه. فهو نوع من التسلط» (١).
وقوله (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) زيادة في تأنيبهم وفي حسراتهم على انقيادهم له.
أى : فلا تلوموني بسبب وعودي إياكم. ولوموا أنفسكم ، لأنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة بدون تفكر أو تأمل ، وأعرضتم عن الحق الواضح الذي جاءكم من عند ربكم ، ومالك أمركم.
ثم ينفض يده منهم ، ويخلى بينهم وبين مصيرهم السيئ فيقول : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ). أى : ما أنا بمغيثكم ومنقذكم مما أنتم فيه من عذاب ، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من عذاب ـ أيضا ـ فقد انقطعت بيننا الأواصر والصلات ..
قال القرطبي ما ملخصه : «والصارخ والمستصرخ هو الذي يطلب النصرة والمعاونة ، والمصرخ هو المغيث لغيره ... قال أمية بن أبى الصلت :
ولا تجزعا إنى لكم غير مصرخ |
|
وليس لكم عندي غناء ولا نصر |
ويقال : صرخ فلان أى استغاث يصرخ صرخا وصراخا وصرخة ..
ومنه : استصرخني فلان فأصرخته ، أى استغاث بي فأغثته .. (٢).
وجملة «إنى كفرت بما أشركتمون من قبل ..» مستأنفة ، لإظهار المزيد من التنصل والتبري من كل علاقة بينه وبينهم.
و «ما» في قوله «بما أشركتمون» الظاهر أنها مصدرية ..
قال الآلوسى ما ملخصه : «وأراد بقوله (إِنِّي كَفَرْتُ) أى : إنى كفرت اليوم «بما أشركتمون من قبل».
أى : من قبل هذا اليوم ، يعنى في الدنيا و «ما» مصدرية و «من قبل» متعلق بأشركتمون.
والمعنى : إنى كفرت بإشراككم إياى لله ـ تعالى ـ في الطاعة ، لأنهم كانوا يطيعون
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٢٢.
(٢) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٣٥٧.