النافذ ، وأمرنا المقدر لإهلاكها بالليل وأصحابها نائمون ، أو بالنهار وهم لا هون ، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة ، التي استؤصل زرعها.
وقوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.
أى : جعلناها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها ، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب : الزرع النضير ، والنبات البهيج ، والنخل الباسق ، والطلع النضيد.
قال القرطبي قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أى : لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره ، والمغانى في اللغة : المنازل التي يعمرها الناس» (١).
وقال ابن كثير : قوله : (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك ، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ، ولهذا جاء في الحديث الشريف : «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له : هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا. ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط فيقول لا» (٢).
والمراد بالأمس هنا : الوقت الماضي القريب : لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.
وقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.
أى : كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا ، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض.
قال الجمل ما ملخصه : «وهذه الآية مثل ضربه الله ـ تعالى ـ للمتشبث في الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها .. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التي ينتفع بها المرء ، كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به ، وقع اليأس منه ، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها» (٣).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٢٨.
(٢) تفسير أبن كثير ج ٢ ص ٤١٣.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٤٢.