الصّبر أبلغ في الحجة (١)! وأطال الوقوف والناس ينتظرون أمره ، واشتد عليهم ذلك فتنادوا : حتى متى؟!
فصفق بإحدى يديه على الأخرى وقال لهم : عباد الله ، لا تعجلوا ، فإني كنت أرى رسول الله صلىاللهعليهوآله يستحبّ أن يحمل إذا هبّت الريح.
فأمهل حتى زالت الشمس فصلّى صلاته ركعتين (قصرا) ثم قال لمن لديه : ادعوا لي ابني محمدا ، فدعوه له ، فجاء وهو ابن تسع عشرة سنة (فكان مولده في ١٧ ه) فوقف بين يديه ، ثم دعا بالراية (٢) فنصبت ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أما إن هذه الراية لم ترد قطّ ولا تردّ أبدا ، وإني واضعها اليوم في أهلها!
ثم دفعها إلى ولده محمد وقال له : تقدّم يا بني (٣) بالراية ، واعلم أن الراية إمام أصحابك ، فكن متقدما يلحقك من خلفك ، فإن كان لمن يتقدم من أصحابك جولة رجع إليك (٤) خذ الراية وامض. فمضى فناداه : يا أبا القاسم! قال : لبّيك يا أبة! قال : يا بنيّ ؛ لا يستفزّك ما ترى ، قد حملت الراية وأنا أصغر منك فما استفزّني عدوّي ؛ وذلك أني لم ألق أحدا إلّا حدّثتني نفسي بقتله ، فحدّث نفسك بعون الله بظهورك عليهم ولا يخذلك ضعف اليقين بالنفس ، فإنّ ذلك أشدّ الخذلان!
قال محمد : فقلت له : يا أبة أرجو أن أكون كما تحبّ إن شاء الله.
__________________
(١) الجمل للمفيد : ٣٥٧.
(٢) نقل المعتزلي في شرح نهج البلاغة ٩ : ١١١ عن أبي مخنف : هي راية رسول الله السوداء المعروفة بالعقاب ، وقال للحسنين : إنما دفعت الراية إلى أخيكما وتركتكما لمكانكما من رسول الله ، أي أنه كان لا يزجّ بهما في القتال إبقاء عليهما.
(٣) الجمل للمفيد : ٣٥٦.
(٤) الجمل للمفيد : ٣٥٩.