الظاهر. ولقد قال لي الملك العادل : إنه لما استقرت عليه هذه القاعدة واجتمعت بخدمة الملك العزيز والملك الظاهر وجلست بينهما قلت للملك العزيز : يا مولاي إن السلطان قد أمرني أن أسير في خدمتك إلى مصر وأنا أعلم أن المفسدين كثير ، وغدا فما نخلو ممن يقول ما لا يجوز عني ويخوفك مني ، فإن كان لك عزم تسمع فقل لي حتى لا أجيء ، فقال : لا أسمع وكيف يكون ذلك ، ثم التفت. وقلت للملك الظاهر : أنا أعرف ان أخاك ربما سمع في أقوال المفسدين وأنا فمالي إلا أنت ، وقد قنعت منك بمنبج متى ضاق صدري من جانبه ، فقال : مبارك وذكر كل خير.
ثم إن السلطان سير ولده الظاهر إلى حلب وأعادها إليه ، وكان رحمهالله يعلم أن حلب هي أصل الملك وجرثومته وقاعدته ولهذا دأب في طلبها ذلك الدأب ، ولما حصلت له أعرض عما عداها من بلاد المشرق وقنع منهم بالطاعة والمعونة على الجهاد فسلمها إليه علما منه بحذاقته وحزمه وحفظه ، فسار حتى أتى العين المباركة وسير في خدمته الشحنة حسام الدين بشارة وواليا شجاع الدين عيسى بن بلاشوا ، فنزل يوم الجمعة بعين المباركة وخرج الناس إلى لقائه في بكرة تاسع جمادى الآخرة ، وصعد القلعة ضحوة نهاره وفرح الناس به فرحا شديدا ، ومد على الناس من جناح عدله وأفاض عليهم وابل فضله.
قال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : وقد بلغني من خبير بأحوال صلاح الدين أنه إنما حمله على أخذ حلب من العادل وإعادة تقي الدين إلى الشام أن صلاح الدين لما مرض بحران على ما ذكرناه أرجف بمصر أنه قد مات فجرى من تقي الدين حركات من يريد أن يستبد بالملك ، فلما عوفي صلاح الدين بلغه ذلك فأرسل الفقيه عيسى الهكاري (١) ، وكان كبير القدر عنده مطاعا في الجند إلى مصر وأمره بإخراج تقي الدين والمقام بمصر ، فسار مجدا فلم يشعر تقي الدين إلا وقد دخل الفقيه عيسى إلى داره بالقاهرة وأرسل إليه يأمره بالخروج منها ، فطلب أن يمهل إلى أن يتجهز فلم يفعل وقال : تقيم خارج المدينة وتتجهز ، فخرج وأظهر أنه يريد الدخول إلى الغرب فقال له : اذهب حيث شئت ، فلما سمع صلاح الدين الخبر أرسل إليه يطلبه ، فسار إلى الشام فأحسن إليه ولم يظهر له شيئا مما كان لأنه كان حليما كريما صبورا رحمهالله.
__________________
(١) عيسى هذا له ترجمة في ابن خلكان وهو فقيه وأمير كان يلبس ثياب الأجناد ويتعمم عمامة الفقهاء ، وقد ذكره القاضي ابن شداد في السيرة الصلاحية في صحيفة ٨٢.