قاصدين الخدمة للغزاة ، فسار نحو حصن الأكراد في طلب الساحل الفوقاني. ولما كان مستهل ربيع الآخر نزل على تل قبالة حصن الأكراد ، ثم سير إلى الملك الظاهر (ولده) والملك المظفر أن يجتمعا وينزلا بتيزين قبالة أنطاكية لحفظ ذلك الجانب. وسارت عساكر الشرق حتى اجتمعت بخدمة السلطان في هذه المنزلة ووصلت إليه رحمهالله بهذه المنزلة على عزم المسير إلى الموصل متجهزا لذلك ، فلما حضرت عنده فرح بي وأكرمني وكنت قد جمعت له كتابا في الجهاد (١) بدمشق مدة مقامي فيها يجمع آدابه وأحكامه ، فقدمته بين يديه فأعجبه وكان يلازم مطالعته ، وما زلت أطلب دستورا في كل وقت وهو يدافعني عن ذلك ويستدعيني للحضور في خدمته في كل وقت ويبلغني على ألسنة الحاضرين ثناءه علي وذكره إياي بالجميل. ثم سير إلي مع الفقيه عيسى وكشف لي أنه ليس في عزمه أن يمكنني من العود إلى بلادي ، وكان الله قد أوقع في قلبي محبته منذ رأيته وحبه الجهاد فأحببته لذلك وخدمته من تاريخ مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وهو يوم دخوله الساحل. وجميع ما حكيته قبل إنما هو روايتي عمن أثق به ممن شاهده. ومن هذا التاريخ ما سطرت إلا ما شاهدته أو أخبرني به من أثق به خبرا يقارب العيان. ثم ذكر خبر فتحه إلى أنطرسوس وما حولها ثم قال :
وسار يريد جبلة وكان عرض له ولده الملك الظاهر في أثناء طريق جبلة ، فإنه طلبه وأمره أن يحضر معه جميع العساكر التي كانت بتيزين ، ووصل إلى جبلة في الثامن عشر من جمادى الأولى ، وما استتم نزول العسكر حتى أخذ البلد وكان فيه مسلمون مقيمون فيه وقاض يحكم بينهم ، وكان قد عمل على البلد فلم يمتنع وبقيت القلعة ممتنعة ونزل العسكر محدقا بالبلد ، وقد دخله المسلمون واشتغل بقتال القلعة فقاتلت قتالا يقيم عذرا لمن كان فيها ، وسلمت بالأمان في التاسع عشر وأقام عليها إلى الثالث والعشرين. وسار عنها يطلب اللاذقية.
وقال ابن الأثير في حوادث هذه السنة : لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد أتاه قاضي جبلة وهو منصور بن نبيل يستدعيه إليها ليسلمها إليه ، وكان هذا القاضي عند بيمند صاحب أنطاكية وجبلة مسموع الكلمة له الحرمة الوافرة والمنزلة العالية ، وهو يحكم على جميع المسلمين بجبلة ونواحيها وعلى ما يتعلق بالبيمند ، فحملته الغيرة للدين على قصد السلطان
__________________
(١) انظر ترجمة المؤلف في القسم الثاني وفي وفيات سنة ٦٣٢.