والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال فدخلوا إليهم وأسروهم وقرنوهم بالحبال وأسرفوا في قتل النساء والرجال ، وصارت الأبكار تفتض في المساجد ولم يراعوا حرمة المساجد ، فلم يرثوا لبكاء الرضع ولم يخشوا دعاء الركّع ، وقد صارت المساجد كالمجزرة من القتلى فلا حول ولا قوة إلا بالله.
واستمر هذا الأمر الشنيع يتزايد من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء ، فلما رأى دمرداش نائب حلب عين الغلب نزل من القلعة هو وبقية النواب وأخذوا في رقابهم مناديل وتوجهوا إلى تمرلنك يطلبون منه الأمان ، فلما مثلوا بين يديه خلع عليهم أقبية مخمل أحمر وألبسهم تيجانا مذهبة وقال لهم : أنتم صرتم نوابي (١) ، ثم أرسل معهم جماعة من أمرائه يتسلمون القلعة فاستنزلوا من كان بها وهم في قيود. واستمر مقيما على حلب نحو شهر وعسكره ينهبون القرى التي حول حلب ويقطعون الأشجار التي بها ويهدمون البيوت ، وقد أسرفوا في القتل ونهب الأموال ، وصارت الأرجل لا تطأ إلا على جثّة إنسان لكثرة القتلى ، حتى قيل إنه بنى من رؤوس القتلى عشرة مآذن دور كل مأذنة عشرون ذراعا وصعودها في الهواء مثل ذلك ، وجعلوا الوجوه فيها بارزة تسفو عليها الرياح ، وتركوا أجساد القتلى في الفلاة تنهشها الكلاب والوحوش ، فكان عدة من قتل في هذه الوقعة من أهل حلب من صغار وكبار ونساء ورجال نحوا من عشرين ألف إنسان ، هذا خارج عمّا هلك من الناس تحت أرجل الخيول عند اقتحام أبواب المدينة وقت الهزيمة ، وهلك من الجوع والعطش أكثر من ذلك.
فلما ملك تمرلنك مدينة حلب والقلعة نهب جميع ما في المدينة والقلعة ، ثم رحل عنها بعدما جعلها خاوية على عروشها ، وقد تعطلت في مدة هذه المحاصرة عن الأذان والإقامة وعن صلاة الجمعة.
__________________
(١) الذي في تاريخ تيمور لابن عربشاه : لما نزل إليه النواب قبض على سيدي سودون وشيخ الخاصكي وألطنبغا العثماني نائب صفد وعمر بن الطحان نائب غزة وقيدهم وخلع على دمرداش فقط مكافأة له على مخامرته كما تقدم.