بالغيبة (١) ـ إما على الرجوع على الكفار المتقدمين ، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين.
فإن قيل : ههنا ثلاثة مواضع ، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير ، وقدّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمة في ذلك؟
فالجواب : أنّ الأول لمناسبة ما قبله ، من قوله : (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى) فرجع الموت لمن ضرب في الأرض ، والقتل لمن غزا ، وأما الثاني فلأنه محلّ تحريض على الجهاد ، فقدّم الأهمّ الأشرف ، وأما الأخير فلأن الموت أغلب.
فإن قيل : كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلا.
فالجواب : أنّ الذي يجمعونه في الدّنيا قد يكون من الحلال الذي يعدّ خيرا ، وأيضا هذا وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خيرات.
فقيل : المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات.
قوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) هذا الترتيب في غاية الحسن ؛ فإنه قال في الآية الأولى : (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) وهذا إشارة إلى من عبده خوفا من عقابه ، ثم قال : (وَرَحْمَةٌ) وهو إشارة إلى من عبده لطلب ثوابه ، ثم ختمها بقوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) وهو إشارة إلى من عبده لمجرد العبودية والربوبية ، وهذا أعلى المقامات ، يروى أن عيسى ـ عليهالسلام ـ مرّ بأقوام نحفت أبدانهم ، واصفرّت وجوههم ، ورأى عليهم آثار العبادة ، فقال : ماذا تطلبون؟ فقالوا : نخشى عذاب الله ، فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مرّ بأقوام آخرين ، فرأى عليهم تلك الآثار ، فسألهم ، ماذا تطلبون؟ فقالوا : نطلب الجنّة والرّحمة ، فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مرّ بقوم ، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر ، فسألهم ، فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ، ونحن عبيده ، لا لرغبة ولا لرهبة ، فقال : أنتم العبيد المخلصون ، والمتعبدون المحقون.
قوله : (لَإِلَى اللهِ) اللام جواب القسم ، فهي داخلة على (وَتُحْشَرُونَ) و (وإلى الله) متعلقّ به ، وإنما قدّم للاختصاص ، أي : إلى الله ـ لا إلى غيره ـ يكون حشركم ، أو للاهتمام به ، وحسّنه كونه فاصلة ، ولو لا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون ؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده [بالنون] ، مع اللام ، خلافا للكوفيين ؛ حيث يجيزون التعاقب بينهما.
كقول الشاعر : [الكامل]
__________________
(١) انظر : السبعة ٢١٨ ، والحجة ٣ / ٩٤ ، والعنوان ٨١ ، وإعراب القراءات ١ / ١٢١ ، وشرح الطيبة ٤ / ١٧٢ ، وشرح شعلة ٣٢٥ ، وإتحاف ١ / ٤٩٣.