برحمة من الله ، نظيره قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) [المائدة : ٣] وقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ) [المؤمنون : ٤٠] وقوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ) [ص : ١١] وقوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) [نوح : ٢٥]. والعرب قد تريد في الكلام ـ للتأكيد ـ ما يستغنى عنه ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) [يوسف : ٩٦] فزاد «أن» للتأكيد.
وقال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين ـ غير جائز ، بل تكون غير مزيدة ، وإنما هي نكرة ، وفيها وجهان :
الأول : أنها موصوفة ب «رحمة» أي : فبشيء رحمة.
الثاني : أنها غير موصوفة ، و «رحمة» بدل منها ، نقله مكيّ عن ابن كيسان.
ونقل أبو البقاء عن الأخفش وغيره : أنها نكرة موصوفة ، و «رحمة» بدل منها ، كأنه أبهم ، ثم بين بالإبدال.
وقال ابن الخطيب : «يجوز أن تكون «ما» استفهاما للتعجب ، تقديره : فبأي رحمة من الله لنت لهم ، وذلك ؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة ـ ثم إنه ما أظهر ـ ألبتة ـ تغليظا في القول ، ولا خشونة في الكلام ـ علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيّ وتسديد إلهيّ فكان ذلك موضع التعجب».
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل «ما» مضافة إلى «رحمة» ـ وهو ظاهر تقديره ـ فيلزم إضافة «ما» الاستفهامية ، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا «أي» اتفاقا و «كم» عند الزّجّاج ـ وإما أن لا يجعلها مضافة ، فتكون «رحمة» بدلا منها ، وحينئذ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل ـ كما قرره النحويون. ثم قال : «وهذا الرجل لحظ المعنى ، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك ، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوّر عليه قول الزجاج ـ في «ما» هذه : إنها صلة ، فيها معنى التأكيد بإجماع النحويين.
وليس لقائل أن يقول : له أن يجعلها غير مضافة ، ولا يجعل «رحمة» بدلا ـ حتى يلزم إعادة حرف الاستفهام ـ بل يجعلها صفة ، لأن «ما» الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى ، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديّ ، فكان لا يجوّز أن يقال ـ في القرآن ـ : هذا زائد أصلا.
وهذا فيه نظر ؛ لأن القائلين بكون هذا زائدا لا يعنون أنه يجوز سقوطه ، ولا أنه مهمل لا معنى له بل يقولون : زائد للتوكيد ، فله أسوة بسائر ألفاظ التوكيد الواقعة في القرآن. و «ما» كما تزاد بين الباء ومجرورها ، تزاد أيضا بين «من» و «عن» والكاف ومجرورها.
قال مكيّ : «ويجوز رفع «رحمة» على أن تجعل «ما» بمعنى الذي ، وتضمر «هو»