لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون ، أمن أوصى منهم أم من لم يوص ، يعني : أنّ من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفّر عليكم عرض الدّنيا ، وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدّنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر ؛ لأنّ عرض الدّنيا ، وإن كان قريبا عاجلا في الصّورة إلّا أنّه فان ، فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى ، وثواب الآخرة ، وإن كان آجلا ، إلّا أنّه باق ، وفي الحقيقة الأقرب الأدنى.
وقيل : إنّ الله ـ تعالى ـ لما ذكر أنصباء الأولاد ، وأنصباء الأبوين ، وكانت العقول لا تدرك (١) معاني تلك التّقديرات ، فربّما خطر ببال الإنسان أنّ القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوجه فأزال الله ـ تعالى ـ هذه الشّبهة بأن قال : إنّ عقولكم لا تحيط بمصالحكم ، فربّما اعتقدتم في شيء أنّه صالح لكم ، وهو عين المضرة ، وربّما اعتقدتم في شيء أنّه مضرة ، ويكون عين المصلحة ، وأمّا الإله الرّحيم فهو يعلم مغيبات الأمور وعواقبها ، وكأنّه قال : اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قدّرها الله تعالى عليكم بقوله (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) إشارة إلى ترك ما يميل الطبع إليه من قسمة المواريث.
قوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) إشارة إلى وجوب الانقياد إلى المقادير الشّرعيّة.
وقال ابن عباس (٢) : (لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) أي : أطوعهم الله ـ عزوجل ـ من الآباء والأبناء أرفع درجة يوم القيامة [والله تعالى يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة](٣) رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم.
قوله : (نَفْعاً) نصب على التّمييز من «أقرب» ، وهو منقول من الفاعلية ، واجب النّصب ؛ لأنّه متى وقع تمييز بعد «أفعل» التفضيل ، فإن صحّ أن يصاغ منها فعل مسند إلى ذلك التّمييز على جهة الفاعليّة وجب النّصب كهذه الآية ، إذ يصحّ أن يقال : أيّهم أقرب لكم نفعه ، وإن لم يصحّ ذلك وجب جرّه نحو : «زيد أحسن فقيه» بخلاف «زيد أحسن فقها» ، وهذه قاعدة مفيدة و «لكم» متعلق ب «أقرب».
قوله : (فَرِيضَةً) فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنّها مصدر مؤكد (٤) لمضمون الجملة السّابقة من الوصية ؛ لأن معنى
__________________
(١) في ب : لا تدري.
(٢) ينظر : تفسير البغوي ١ / ٤٠٣ والرازي ٩ / ١٧٧.
(٣) سقط في أ.
(٤) في أ : تكون.